بوكرش فنون

بوكرش فنون
محراب فنون 1954

الثلاثاء، 11 سبتمبر 2007

لن تهزمني رائحة الدم / الكاتبة سها جلال سوريا


الفنانة سها جلال جودة
لن تهزمني رائحة الدم

!

لن تهزمني رائحة الدم، ولن أكون غير ذاتي، أيها القادم من ريح الوجع توقف، ما عدت أحتمل أن يُسلخ من جلد ذاكرتي حلمي الكبير، عنادك وإصرارك على تراجعي، كاد أن يخنقني، سأفعل فعل الخيول البرية في الدفاع عن حقي!!

قررت أن أعانق مدينة أخرى، تركت الخوف، تسللت في هزيع الليل أستجر خطواتي كامرأة حبلى، هذا الرحيل ليس كغيره، خرج من بطن القرار، لقلب، كان يركض في كل اتجاه بحثاً عن هدفه.

بضع ليرات كانت في جيبي، سبع ليرات، يا سبع العائلة، للغذاء والكساء والمبيت، والشارع طويل ، طويل، كل شيء باردٌ، الرصيف الذي لم يعرف رائحة الدم بعدُ، كنت أرمقه بنظراتي الغضبى، أراه ودع كل الناس، وتركني للوحدة وكوابيس الليل .
سبع ليرات، وسبع ليال، ولكن ليست بعشر!! جعلت الخوف يوزع شظاياه داخل نفسي، هل أصبحت كئيباً؟ هل سأفقد آخر ما بقي معي من الليرات السبع؟ لأعيش جوعاً ماطراً بالأحزان، والريح حين ستهب، ستأكل كل شيء، حتى أنا!!

عند صراخ الموج على الحياة، كنت أتدثر بقماش يشبه قماش سفن الصواري، أرتمي بجسدي المنهك فوق الرمال، أي القلوب احتواه قلبك؟ رفضت أن أحقق حلمي، قل لي ما الفرق بين الطبيب والفنان؟ بعفوية تغلب جموح نفسي الصاهلة أضحك، بل أقهقه مثل غضب الريح، أغمض عيني أريد أن أنام، هل تغفو عين المتوجع؟

كنت في حياتي رمزاً للقوة والرجولة والاندفاع نحو الحياة، قلت لك:
- إنه حلمي.
أجبت بصرامة لم تمسحها ذاكرتي:
- صالح، لن أتراجع عن قراري.

حدثتك عن خيال أبيض، يسكنني، والدموع تترقرق في عيني، كان من الصعب عليك أن تسايرني، فتهت داخل دوامة من الجنون الصامت، أيها الأب المتسلط قبلت التحدي، لن أتراجع، هل يتراجع عاشق الحلم عن حلمه؟

وجهك الصارم يرتسم أمام عيني، وأنا أنزف من الوجع والبرد والجوع مرايا صور، لم تلتقطها كاميرا فنان عابر بعد!؟

طعام الفقير الهارب من مدينة إلى أخرى، كان رغيف خبز مدهوناً بالماء والسكر، وأمواج البحر تعزف سيمفونية التعجب.

كان من الصعب جداً عليّ أن أتراجع، نهضت، مضيت أبحث عن عمل، أريد أن أؤمن سبل عيشي، وأقساط الجامعة، مهنتك التي حفظت بعضاً من إصلاحاتها، ساعدتني، قدمت العون لي نكاية بك، وبالفقر، خرجت من عنده كمن خرج من جامع توضأ فيه وصلى، الحلم أصبح يعلن عن انتصاره بعد كل هذا التعب، صوتك الأجش يطعن دماغي حين يرتد صدى الكلمة الفجة القاسية: لا، لن تصبح فناناً، ستصبح طبيباً!

رجل غريب، ساندني، فاخضرت الدنيا في روحي، انتشت نفسي كمن شرب من نبيذ الملوك، رحت أسعى بكل جهدي كي أوازن ما بين العمل والجامعة، لتنصرف عني أحزاني ويزهر ربيع عمري.

- ما اسمك أيتها الساحرة الجميلة؟
- جانيت

عزف قلبي نشيد الحب، وبدأنا نحقق المشوار معاً، غمرتني بدفء حنانها، فمنحتها من حب الرجولة ما تشتهيه كل أنثى.

أصابعي بدأت تناديني، صلصال الأرض صار طوع يدي، يهمس في أذني : أيها الفنان، اصنع.

شعرت برائحة الطين تخرج من ساعدي كرائحة عطر الربيع، أو هذا البحر، رفعت التمثال عن الأرض، دهش صاحب العمل من إبداعي، طلب مني أن أصنع له واحداً لكاتب يحبه، شمرت عن ساعدي بسرعة، درست التفاصيل بكل ما أوتيت من حب لهذا الفن الذي هجرت لأجله وطني وأهلي.
وضعت يدي في جيبي، لم أجد الليرات السبع، كان كل شيء قد تحول، وجانيت قربي تبني معي مستقبل الحب الناصع كغيمة بيضاء، شهور قليلة وتتناول ذاكرتي البشرى:

- صالح أنا حامل.

أيها الناس لا تخشوا مني، أنا إلهة الحلم، دعوني أصنع من وجوهكم خمائر للقادم الآتي، لجيل يهمني أن يقرأ كوامن الشخصية على حقيقتها، تعالوا انظروا لقد حفرت على حجارة من الصوان وجوهاً لأدباء وكتاب وشعراء، جعلت الحجر ينطق، أتسمع يا أبي بما فعله ولدك صالح حين حقق حلمه بانتمائه لذاته.

في عالمك الذي ينتمي إلى سلطة "أنا"، جعلتني أغادر، لأعيش حرماناً قاسياً من الحنان وروابط الأهل، أنا أحبك، كنت وما زلت أعشق رائحة عرق جسدك، بارك لي أيها الأب القوي، سامحني، دعني أعد إليك مع حبيبتي جانيت، قريباً ستصبح جداً، إنني قادم إليكم فما عدت أحتمل الغربة وحريق الشوق.
كنت في عالمي غائصاً حتى الخدر، لم أكن أصغي إلى صرخات الاستغاثة التي كنت أسمعها، وأنا داخل مرسمي ألون لوحاتي بألوان الحياة، حتى سألت جانيت:
- ما الذي يحصل يا حبيبتي؟
- إنها الحرب الأهلية يا صالح.

أزيز من هنا، عواء قنابل من هناك، قتلى، جرحى، وروائح دم، أمضي نحو رصيف البداية، هو الآخر، ماعاد خالياً من رائحة الدم وجثث الضحايا، مكتوب على جبيني الرحيل:
- هيا يا جانيت دعينا نخرج إلى مدينة أخرى .

تجلس إلى جانبي ودوي محرك السيارة يتداخل مع دوي القذائف، وصوت الرصاص.

- أيها الوحش المجنون، تراجع، لا تقترب من حبي، سأفضحك ذات يوم، ألا تعرف أن في أصابعي كل قوى العالم؟!
يصمت جنون الوحش بعض وقت، قبل أن يفور بركان سمومه، ثم يسألني:
- متى كانت الأصابع مثل القذيفة أو البندقية؟
أضحك من كل قلبي، وبصوت عال أصرخ:
- من الجهل أن تسألني سؤالاً كهذا السؤال.

أحرك المقود باتجاه اليسار، أضغط بقدمي على البنزين، "يا وطن الأرض الجريحة، سأعود إليك حتماً".

000000:- لا تغادر، اسمع صراخ، ونواح التراب.
000000: -اسكت أيها الذبيح، التراب لا يبكي ولا ينوح، لكن ما هذه الأصوات ؟
00000:- هل ضيعتك الجهات وغابت عن ناظريك المزارات؟

فجأة، انفلتت قذيفة الوحش الذي لا يعرف سوى الغدر، تناثر الدم على زجاج السيارة والمقعد الذي يضمك وجانيت، خرج الصوت من الرأس، يدها تنفصل عن جسدها، ترتمي على حضنك، تلمست خاصرتك، وجدتها مبللة بالدم، نظرت إلى جانيت، حملتها على ذراعيك، عيناك زائغتان، وأنين صراخها يصعد إلى السماء:

- صالح خلصني
قواك بدأت تخور، قدماك تضربان الأرض، تريد الوصول إلى أقرب مشفى، لإيقاف النزيف، وطبول تدق في رأسك تريد أن تهشمه من الداخل، التقت عيناك في عينيها، أغمضتهما لا تريد رؤية جانيت مغطسة بالدم، صرخت هي من جديد:

- صالح خلصني

لكي تتخلص من بعض الآلام، صرخت مثل الوحش الكاسر:

- أيها الخائن دعني، لا تعدْ إلا سيرتي، هذا ليس من حقك، إنه من حقي أنا، أكثر العشاق يخسرون، ليكسبوا الخيبة والمرارة، من هنا لن يمر قطار عمري فارغاً، موت جانيت منارة تلوح لي في الحلم.
الصلصال يناديني، يتطعج بين يدي، وما زلت أفكر، لماذا لم أكن قادراً على تجسيد رسم حبيبتي بمنحتوتة حب؟

17/ 9/ 2005

ليست هناك تعليقات:

مدونة خاصة بجديد وقديم كل ما هو جميل وانساني في ميدان الفنون التشكيلية