الدكتورة الفاضلة الفنانة الكاتبة سناء شعلان
” إلى روح طارق العسّاف الذي ابتعله الماء، ويتّم لوحته “
ثُبِتتْ على واجهة مخملية بارزة، الأضواء المُسلّطة عليها أبرزت أحزانها ووحدتها، كانت تقبع في صدر المعرض، تواجه تماما ًعينيّ كلّ من يدلف إلى القاعة ذات البلاط الرخامي والجدران المخمّرة بستائر مخملية خضراء، حصلت على الكثير من الصور الفوتوغرافية من قبل مراسلي الصحف والمجلات، كانت تراقب جموع الحاضرين بحزن خاص يناسب خطوطها السوداء التي تحاصر بقعاً لونية صفراء يتيمة في حدادٍ أسود.
كلّ لوحة من اللوحات التي كانت مصلوبة مثلها على واجهة مخملية نعمت بحشدٍ من الأصدقاء والمعارف، وبابتسامة عريضة على وجه راسمها إلا هي، فقد كانت وحيدة، تفتقد جموعاً تحمل ابتسامة فوز، وتفتقد بشكل خاص أنامل صغيرة رسمتها على عَجل. كانت لوحة ًتشكيليةً تحمل اسم ” غوّار “، رسمها طارق العسّاف ؛ ليكرّس بها أحلام الطفولة، وليبرز فيها شخصية طفولته المفضلة المتجسدة في غوّار، وليبث في ألوانها القاتمة خيالات حرمانه، وليزرع في بقعها الصفراء أمل رجولته التي تقف على أعتاب طفولته، لتدلف إلى جسده، فتكونه رجلاً أسمر بازغاً من شابٍ نحيلٍ صغيرٍ، في عينيه العسجدتين آلاف الطائرات الورقية ذات الأذيال المزركشة التي تطير فوق سطح بيته، فيطاردها بعبثية وشقاوة هما أجمل ما في طفولته البريئة، ثم يرسمها بألوان خرافية لا يملك أن يشتري أيّاً منها ؛ لأنّه لا يريد أن يكبّد أسرته المستورة الحال أيّ نفقات إضافية، ولو كانت نفقات زهيدة، ليرسم بها لوحة صغيرة تفتح طاقة على أحلامه، وعلى موهبته المتفتحة كزهرة بريّة.
لم يذهب إلى مدرسة الفنون، ولم يلتحق بأي نادٍ للرسم، وقليلة هي حصص الرسم التي عرفها في مدرسته الحكومية القديمة، ذات الأسوار المهترئة، لكن قلبه كان ينبوعاًً للصور والألوان، كان يتقن لغة الصّور، ويفكّ رموز وطلاسم الألون، يكفيه أن يبتسم ابتسامته الخجولة السمراء، ثم ينتحي زاوية لدقائق أو لساعاتٍ، قد يقعد القرفصاء، ويسند اللوحة إلى حضنه، وقد يركن بها إلى أيّ حائط قريب، ثم يشرع بكسي عريها بألوانه، خطوط تنبع من قلبه، ألوان تمتزج بمقدار ذوقه، ووفق غريزته التي جُبلت بقدرة عجيبة على تذوق الألوان، واستجلاء جمالياتها، واللعب بظلالها ودرجاتها، دقائق من العمل الهادئ المنقطع على ذاته، ثم تكون اللوحة، التي يطير فرحاً بها، تفخر طفولته الولود بلوحته المولود الجديد، يدور بها على أهل البيت، يعرض عليهم سحنتها الجميلة، يتبّرع بشرح معانيها، ثم تلاقي مصيرها، قد تكون هدية لصديق، أو واجباً مدرسياً لمعلم الفن، أو مساعدة سخية لأحد أبناء الجيران الذين تقصّر موهبتهم دون رسم لوحة تقتضيها حاجتهم في المدرسة أو في الجامعة أو حتى في مسابقة. موهبته كانت كنزه الذي لا تمانع نفسه الطاهرة في مشاركة أي أحدٍ به، بل يسرّه أن يطلع أيّ أحدٍ على وافر سحره، وجلي إبداعه، وإن كانت أمّه ترجو أن يكون نصيبه من الدراسة والاجتهاد والحياة والحظ بقدر نصيبه من ملكة الألوان، ومن سلطان حضورها، تتأمّل لوحاته، تقرّبها من صدرها، تبتسم له ابتسامة عريضة تتربّع في قسماتها الهادئة، ثم تقول مقيمةً إيّاها: ” رائعة”. فيبتسم طارق الذي يرفض أن تضمه إلى صدرها، وأن تقبّله ؛ لأنّه رجل، والرجال في عُرف طفولته لا تقبّلهم أمهاتهم كالأطفال الصغار. يأخذ لوحته، ويطير بها إلى سرب الأصدقاء، وما أكثرهم كانوا في ركب المدرسة، وعرصات الحي وملعب كرة القدم الترابي الممتدّ على طول الشريط الغربي للحي الذي يسكنه !!
كان مصروفه قد نَفِِدَ تماماً إلا من قروش معدودة عندما عرف من أحد الأصدقاء القليلين الذين يشترون الصحيفة اليومية أنّ مسابقة إبداعية للشباب على مستوى الدولة تفتح أبوابها للشباب الصغار مثله للتقدّم لمسابقة الرسم بلوحات من رسمهم، كان باب قبول اللوحات يكاد يغلق بعد يوم، ولكن المبلغ المرصود للجائزة كان مبلغاً مستحيلاً وحلماً خيالياً لطفولته الجافة، قدر أنّه بهكذا مبلغ كبير يستطيع أن يجود بعشرات الهدايا على عائلته، ولا سيما على أمّه الحنون التي يجد حنان الدنيا في حضنها، بل ويستطيع أن يشتري عدّة رسم كاملة، ومن أجود الأنواع من محلات الرسم المتخصصة في العاصمة، لكن عليه قبل دراسة خطة إنفاق الجائزة المأمول فيها أن يرسم اللوحة المناسبة، وأن يوصلها بنفسه إلى المركز الثقافي الملكي، حيث تسلّم اللوحات المشاركة وَفْق ما هو مكتوب في الإعلان. ليلة واحدة كانت أمامه لرسم لوحته، كانت ذاكرته مخزناً يعجّ بآلاف الصّور والخطوط، ولكن المشكلة كانت في الألوان، وفي القماش الذي يحتاجه ليرسم عليه، ثم في الإطار الذي تشترط لجنة المسابقة الإبداع الشبابي أن يتوّفر للوحة ؛ ليعطيها الهيبة والشكل المطلوبين، لكنّه لم يكن يملك من الألوان إلا الأسود والأصفر، ثم أنّ لا وقت عنده لتجهيز الإطار المطلوب، فضلاً عن أنّ مصروفه الشهري كاد ينفد، ولا يستطيع أن يكبّد عائلته المزيد من النفقات،” إذن ما العمل؟! ” حدثّ نفسه.
كانت عدّة رسمه تنحصر في الوقت الحاضر في لونين وقطعة قماش، وخلا ذلك لا شيء، حتى أنّه لم يكن يملك فرشاة رسم، ولم يكن هناك وقت لينتظر الصباح ؛ ليمر علىّ معلم الرسم في المدرسة،ليستعير منه فرشاة رسم لحين إنجاز لوحته، ثم إنّه لن يذهب غداً إلى المدرسة، بل سيفرغ نفسه للذهاب إلى العاصمة، وليدفع بلوحته المفترضة إلى لجنة مسابقة الإبداع الشبابي، إذن الحلّ الوحيد هو أن يستعين بأنامله الصغيرة التي لوّحت الشمس أديمها لرسم لوحته المبتغاة، وسيكون نجمه التلفزيوني المفضل غوار هو بطل لوحته. في الصباح كان طارق عساف يحتضن لوحته بحرص من يحمل إيقونه مقدسة، ويعدّ الدقائق في الباص الذي ما فتىء يتوقف ويسير، يحمّل ركاباً وينزل آخرين ليسلم لوحته إلى لجنة المسابقة، مسّد عليها بحنان بأنامله الصغيرة التي ما زالت ملطخة باللونين : الأسود والأصفر، مع أنّه بذل جهداً كبيراً ليزيل أثرهما عن أنامله،لكن دون فائدة. كانت لوحته مغلّفة بورق زينة الهدايا، وبدون إطار، مخالفة بذلك أحد الشروط الرئيسية لقبول اللوحات الفنية.
لكن أمل الفوز كان رائده، دلف إلى المركز الثقافي الذي يعجّ بمئات المتسابقين ممن هم في مثل سنه أو دونه أو أكبر مع ذويهم ؛ليقدموا أعمالهم الإبداعية في موعدها الأخير للجنة المسابقة، كان الدور كبيراً، لكنّه انتظره مبتهجاً فخوراً بلوحته، التي تفوق بجمالها ودقتها كلّ اللوحات التي رآها في أيدي أصحابها.كان صف تقديم اللوحات قصيراً مقارنةً بصف الإبداعات الادبية كالقصة والخاطرة والخطبة والقصيدة، تحفّز الأمل في نفسه بعد أن قبل موظف المركز أن يستقبل لوحته التي تفتقر إلى أهم شروط المسابقة، ووعد بأنّ يقدم لها إطاراً إن فازت. ” لعلّها تفوز ” همس في نفسه التي تضج بالإثارة والتوقّد، فهذه هي المرة الأولى التي يشارك فيها بمسابقة رفيعة المستوى كهذه، شرع يتخيّل الفرحة المنتظرة إن فاز بإحدى الجوائز الثلاث المخصصة للرسم، وإن كان يطمح للأولى منها، كم سيكون مهماً عندها !! لا بد أنّه سيكون محلّ فخر أسرته، ولا بد أنّ صورته ستغزو المجلات والصحف، ليته قدّم لهم صورة شخصية أجمل من تلك التي قدمها لهم،” ولكنّها تفي بالغرض.” حدث نفسه قائلاً من جديد.ولابدّ أنّ مدير مدرسته سيكرّمه أمام طابور الصباح، ومن يعلم قد يضع له معلم الرسم الدرجة النهائية في الرسم تقديراً لفوزه.”لا بدّ أنّي سأكون نجم المدرسة والحي إن فزت. “ أمّل نفسه قائلاّ، وهو يصفق يداً بيد متحمساً، ويقطع الشارع المقابل للمركز الثقافي، ليستقل أوّل باص يعود به إلى بيته. انتظر يوم إعلان النتائج المعلن عنه في إعلان الترشيح بفارغ الصبر، لكن لجنة المسابقة فاجأته بدعوته للمثول أمامها قبل زمن إعلان النتائج بأيام ، خفّ إليهم، يقدّم رجلاً ويؤخّر أخرى،” أستراهم سيبلغونني برفض ترشيح لوحتي بسبب عدم وجود إطار؟ ” سأل نفسه. ” هذا محتمل. ” ردّت نفسه بقنوط. ” ولكن لماذا لم يستبعدوها دون إبلاغي بذلك؟ فذلك من حقهم !” سأل نفسه من جديد.
” نحن لم نستدعك لنبلغك بقرارنا باستبعاد لوحتك ” قال كبير لجنة تحكيم اللوحات عندما سأله طارق عن سبب دعوته. - “إذن لماذا طلبتم مثولي أمامكم ” سأل طارق بفضول أحيا الأمل في قلبه. -” لكي نخبرك أنّ لوحتك قد فازت بالمركز الأوّل، وأن عليك أن تسارع بإحضار إطار لها قبل موعد إعلان النتائج بشكل رسمي “ - ” هل تعني أنّي الفائز الأوّل في حقل الرسم؟”
- هذا تماماً ما قلته.” - ” إذن أنا الفائز بالمركز الاول في حفل الرسم لهذا العام على مستوى المملكة.” - ” بالطبع يا بني ” قال المحكّم الأشيب ذو الابتسامة الواسعة، وهو يرقب طارق يكاد يطير بجناحين ذهبيين انبتتهما سعادة من لدن عالمها الساحر.
غادر طارق المركز الثقافي، وسعادة الدنيا تحرسه، فكّر في أن يوقف كلّ مارٍ في الشارع، ليخبره بأنّه الفائز بالمركز الأوّل، حدّث نفسه باحتضان سائق الباص، وتقبيل مساعده الغليظ، والزعق بأعلى صوته ” أنا الفائز “. بصعوبة أحتوى فرحته، وسرّها لحين عودته إلى البيت. كان ينوي أن يقسّم كلّ مدخراته المتواضعة بين رسوم رحلته المدرسية إلى الحّمة السورية، وبين نفقاته الشخصية في تلك الرحلة، لكن نظراً للظرف السعيد الطارئ، فقد بات من المؤكّد أنّ عليه أن يقسّم مدخراته بين الرحلة ونفقاته، وبين ثمن ابتياع إطار جميل ومناسب للوحة غوّار، التي ستتبوأ المركز الاول في الحفل الذي سيقام الأسبوع القادم، وبهكذا تدبير سوف يحصل على الحسنيين :الرحلة والجائزة. إنّها المرة الاولى التي ينعم فيها بأمرين سعيدين في أسبوع واحد. وحال انتهائه من الرحلة، سوف يهرول سريعاً بالإطار المطلوب إلى لجنة التحكيم.
هكذا كان مخطط طارق لجدولة نشاطات سعادته، لكن القدر كان قد جدول نشاطاته بطريقة مختلفة فيما يخص طارق، الذي قدّمه لقمة سائغة للموت،فقد غرق طارق في رحلته المتمناة، غرق في الحّمة السورية، كادت السعادة تحمله على جناحين من نّور، لكنّها لم تقوَ على إنقاذه من الغرق، الماء طمح إلى احتواء روحه الموهوبة، لم يبال بفرحته، ولم يرحم انتظاره لحفل توزيع الجائزة،وتجاوز بجبروت عن أحزان لوحته، فيتّمها، واختطف راسمها، وأطعمه للموت، واحتواه بلجته دون أن يشعر بأثمه، ودون أن يؤنّبه ضميره على قسوته، أو على جبروت وجوده. وعاد الأصدقاء إلى بيوتهم بملابس مبلّلة، وبصدور معرّاة، ولم يعد طارق، الذي تنتظره لوحة يتيمة في بهو المعرض الذي أُعدّ لعرض كلّ اللوحات المشاركة في المسابقة، الفائزة وغير الفائزة، لتشاركه فرحة الانتصار. كلّ الوجوه حضرت إلا وجه راسم لوحة غوّار، فقد غاب للأبد، دون أن تعلم اللوحة المنتظرة أنّها قد تيتمت منذ أيام، كادت تسأل أمّ طارق عن سبب غياب طارق، لكنّها خرست وَفْقَ قاعدة الجمادات التي لا يّسمح لها بالكلام في حضرة الإنسان الناطق الواحد، لكنّها بحثت عنه في كلّ الوجوه، تفرّست كلّ الشباب أصحاب البذلات الأنيقة، كانوا يتشحون بالأسود الأنيق ليبرز رجولتهم القادمة في هيئة رسمية تناسب المناسبة السعيدة التي هم في صددها، عطورهم العبقة ملأت الجو،وأثارت رتابته، وأبعدت عن ذهنها صورة طارق المتشح بأبيض الموت، والراكن باستسلام لرمس صغير احتواه منذ أيام. لم يطل انتظار اللوحة لطارق، بل انتهى للأبد عندما أُعلن بحضور وزيرة الثقافة عن موت طارق غرقاً، اختنق الجو بعبرات الحاضرين الذين شيعوا لوحة وصورة طارق بوافر الرثاء والحسرة، ووقفوا جميعاً احتراماً لذكراه، قارئين الفاتحة على روحه الطاهرة، حضنت وزيرة الثقافة أم طارق التي داهمتها موجة بكاء حارة كتمتها بصعوبة مذ حضرت إلى الحفل، تمنىّ جميع الحضور لو أنّ في إمكانهم حضن أم طارق؛ ليطوقوا بأسى أحزانها، وليحملوا منها قبساً من طارق. الشباب الموجودون في الحفل شعروا بخجل خاص من أجسادهم الغضّة التي تتمايل تيهاً بالبذلات الأنيقة أمام نظري أم طارق الموتورة بابنها.
جموع كبيرة من المستعبرين التفت حول لوحة طارق، ترى فيها ما لم تره قبل دقائق، حُزْنُ الحشد هيّج مشاعر اللوحة اليتيمة التي تهشّ بصمت ٍلراسمها الراحل المتشح بالأبيض، وتحنّ بشكل خاص إلى أن يدسّها تحت إبطه، وأن يغادر بها المكان شأنها في ذلك شأن اللوحات الأخرى التي سُلّمت لأصحابها في نهاية الحفل، بعد أن أُعلن عن تسمية هذه الدورة الإبداعية بدورة طارق عسّاف، لكن أمنيتها لم تتحقّق، فقليلةٌ هي أمنيات اليتامى المتحققة. استسلمت اللوحة بانكسار ليديّ أم طارق التي ضمتها بانكسارٍ إلى صدرها، وغادرت مبنى المركز الثقافي لا تلوي على شيء، وتقفل يدها بحزن على جائزة طارق المالية التي حلم أن يشتري بها علبة ألوان من النوع الفاخر
Published April 18th, 2008
اللوحة اليتيمة
د. سناء شعلان
“
قصة حقيقية”
De :
sanaa shalan (selenapollo@hotmail.com)
Envoyé :
ven. 18/04/08 17:42
À :
mohamed boukerch (boukerchmohamed@hotmail.com); عدنان الظاهر (aldhahir35@yahoo.de)
اللوحة ال…doc (51,3 Ko)
مساء الورد صديقي الراقي السيد محمد بوكرش:
تحية طيبة وبعد:
أشكرك على رسالتك اللطيفة، التي تعكس رقيك، وجمال مشاعرك، وأشكرك على زهرتك الابن الذي حمل لي زهرة تقل عنه جمالاً ونقاء وصفاء
صديقي الفاضل:
فكرت طويلاً ماذا أهديك مقابل جمال هديتك،فاهتديتُ إلى الكلمة، أنا أهديك هذه القصة من تأليفي؛ لتنشرها في موقعك، لاسيما أنّها مسكونة بجمال الفن وهاجس الإبداع والخلق، وهي قصة حقيقة لفنان صغير سرقه الموت مبكراً. وكلّ الشكر للصديق الدكتور عدنان الظاهر، فلطالما كان السّبب في تعريفي بالأناس الطّيبة الجميلة، ومن يكون دكتور عدنان رائده، فهو سيكتشف الكثير من الجمال والسّحر والجديد الخلاب.
ولك ودي
د. سناء شعلان/ الأردن
اللوحة اليتيمة
د. سناء شعلان
“
قصة حقيقية”
De :
sanaa shalan (selenapollo@hotmail.com)
Envoyé :
ven. 18/04/08 17:42
À :
mohamed boukerch (boukerchmohamed@hotmail.com); عدنان الظاهر (aldhahir35@yahoo.de)
اللوحة ال…doc (51,3 Ko)
مساء الورد صديقي الراقي السيد محمد بوكرش:
تحية طيبة وبعد:
أشكرك على رسالتك اللطيفة، التي تعكس رقيك، وجمال مشاعرك، وأشكرك على زهرتك الابن الذي حمل لي زهرة تقل عنه جمالاً ونقاء وصفاء
صديقي الفاضل:
فكرت طويلاً ماذا أهديك مقابل جمال هديتك،فاهتديتُ إلى الكلمة، أنا أهديك هذه القصة من تأليفي؛ لتنشرها في موقعك، لاسيما أنّها مسكونة بجمال الفن وهاجس الإبداع والخلق، وهي قصة حقيقة لفنان صغير سرقه الموت مبكراً. وكلّ الشكر للصديق الدكتور عدنان الظاهر، فلطالما كان السّبب في تعريفي بالأناس الطّيبة الجميلة، ومن يكون دكتور عدنان رائده، فهو سيكتشف الكثير من الجمال والسّحر والجديد الخلاب.
ولك ودي
د. سناء شعلان/ الأردن
” إلى روح طارق العسّاف الذي ابتعله الماء، ويتّم لوحته “
ثُبِتتْ على واجهة مخملية بارزة، الأضواء المُسلّطة عليها أبرزت أحزانها ووحدتها، كانت تقبع في صدر المعرض، تواجه تماما ًعينيّ كلّ من يدلف إلى القاعة ذات البلاط الرخامي والجدران المخمّرة بستائر مخملية خضراء، حصلت على الكثير من الصور الفوتوغرافية من قبل مراسلي الصحف والمجلات، كانت تراقب جموع الحاضرين بحزن خاص يناسب خطوطها السوداء التي تحاصر بقعاً لونية صفراء يتيمة في حدادٍ أسود.
كلّ لوحة من اللوحات التي كانت مصلوبة مثلها على واجهة مخملية نعمت بحشدٍ من الأصدقاء والمعارف، وبابتسامة عريضة على وجه راسمها إلا هي، فقد كانت وحيدة، تفتقد جموعاً تحمل ابتسامة فوز، وتفتقد بشكل خاص أنامل صغيرة رسمتها على عَجل. كانت لوحة ًتشكيليةً تحمل اسم ” غوّار “، رسمها طارق العسّاف ؛ ليكرّس بها أحلام الطفولة، وليبرز فيها شخصية طفولته المفضلة المتجسدة في غوّار، وليبث في ألوانها القاتمة خيالات حرمانه، وليزرع في بقعها الصفراء أمل رجولته التي تقف على أعتاب طفولته، لتدلف إلى جسده، فتكونه رجلاً أسمر بازغاً من شابٍ نحيلٍ صغيرٍ، في عينيه العسجدتين آلاف الطائرات الورقية ذات الأذيال المزركشة التي تطير فوق سطح بيته، فيطاردها بعبثية وشقاوة هما أجمل ما في طفولته البريئة، ثم يرسمها بألوان خرافية لا يملك أن يشتري أيّاً منها ؛ لأنّه لا يريد أن يكبّد أسرته المستورة الحال أيّ نفقات إضافية، ولو كانت نفقات زهيدة، ليرسم بها لوحة صغيرة تفتح طاقة على أحلامه، وعلى موهبته المتفتحة كزهرة بريّة.
لم يذهب إلى مدرسة الفنون، ولم يلتحق بأي نادٍ للرسم، وقليلة هي حصص الرسم التي عرفها في مدرسته الحكومية القديمة، ذات الأسوار المهترئة، لكن قلبه كان ينبوعاًً للصور والألوان، كان يتقن لغة الصّور، ويفكّ رموز وطلاسم الألون، يكفيه أن يبتسم ابتسامته الخجولة السمراء، ثم ينتحي زاوية لدقائق أو لساعاتٍ، قد يقعد القرفصاء، ويسند اللوحة إلى حضنه، وقد يركن بها إلى أيّ حائط قريب، ثم يشرع بكسي عريها بألوانه، خطوط تنبع من قلبه، ألوان تمتزج بمقدار ذوقه، ووفق غريزته التي جُبلت بقدرة عجيبة على تذوق الألوان، واستجلاء جمالياتها، واللعب بظلالها ودرجاتها، دقائق من العمل الهادئ المنقطع على ذاته، ثم تكون اللوحة، التي يطير فرحاً بها، تفخر طفولته الولود بلوحته المولود الجديد، يدور بها على أهل البيت، يعرض عليهم سحنتها الجميلة، يتبّرع بشرح معانيها، ثم تلاقي مصيرها، قد تكون هدية لصديق، أو واجباً مدرسياً لمعلم الفن، أو مساعدة سخية لأحد أبناء الجيران الذين تقصّر موهبتهم دون رسم لوحة تقتضيها حاجتهم في المدرسة أو في الجامعة أو حتى في مسابقة. موهبته كانت كنزه الذي لا تمانع نفسه الطاهرة في مشاركة أي أحدٍ به، بل يسرّه أن يطلع أيّ أحدٍ على وافر سحره، وجلي إبداعه، وإن كانت أمّه ترجو أن يكون نصيبه من الدراسة والاجتهاد والحياة والحظ بقدر نصيبه من ملكة الألوان، ومن سلطان حضورها، تتأمّل لوحاته، تقرّبها من صدرها، تبتسم له ابتسامة عريضة تتربّع في قسماتها الهادئة، ثم تقول مقيمةً إيّاها: ” رائعة”. فيبتسم طارق الذي يرفض أن تضمه إلى صدرها، وأن تقبّله ؛ لأنّه رجل، والرجال في عُرف طفولته لا تقبّلهم أمهاتهم كالأطفال الصغار. يأخذ لوحته، ويطير بها إلى سرب الأصدقاء، وما أكثرهم كانوا في ركب المدرسة، وعرصات الحي وملعب كرة القدم الترابي الممتدّ على طول الشريط الغربي للحي الذي يسكنه !!
كان مصروفه قد نَفِِدَ تماماً إلا من قروش معدودة عندما عرف من أحد الأصدقاء القليلين الذين يشترون الصحيفة اليومية أنّ مسابقة إبداعية للشباب على مستوى الدولة تفتح أبوابها للشباب الصغار مثله للتقدّم لمسابقة الرسم بلوحات من رسمهم، كان باب قبول اللوحات يكاد يغلق بعد يوم، ولكن المبلغ المرصود للجائزة كان مبلغاً مستحيلاً وحلماً خيالياً لطفولته الجافة، قدر أنّه بهكذا مبلغ كبير يستطيع أن يجود بعشرات الهدايا على عائلته، ولا سيما على أمّه الحنون التي يجد حنان الدنيا في حضنها، بل ويستطيع أن يشتري عدّة رسم كاملة، ومن أجود الأنواع من محلات الرسم المتخصصة في العاصمة، لكن عليه قبل دراسة خطة إنفاق الجائزة المأمول فيها أن يرسم اللوحة المناسبة، وأن يوصلها بنفسه إلى المركز الثقافي الملكي، حيث تسلّم اللوحات المشاركة وَفْق ما هو مكتوب في الإعلان. ليلة واحدة كانت أمامه لرسم لوحته، كانت ذاكرته مخزناً يعجّ بآلاف الصّور والخطوط، ولكن المشكلة كانت في الألوان، وفي القماش الذي يحتاجه ليرسم عليه، ثم في الإطار الذي تشترط لجنة المسابقة الإبداع الشبابي أن يتوّفر للوحة ؛ ليعطيها الهيبة والشكل المطلوبين، لكنّه لم يكن يملك من الألوان إلا الأسود والأصفر، ثم أنّ لا وقت عنده لتجهيز الإطار المطلوب، فضلاً عن أنّ مصروفه الشهري كاد ينفد، ولا يستطيع أن يكبّد عائلته المزيد من النفقات،” إذن ما العمل؟! ” حدثّ نفسه.
كانت عدّة رسمه تنحصر في الوقت الحاضر في لونين وقطعة قماش، وخلا ذلك لا شيء، حتى أنّه لم يكن يملك فرشاة رسم، ولم يكن هناك وقت لينتظر الصباح ؛ ليمر علىّ معلم الرسم في المدرسة،ليستعير منه فرشاة رسم لحين إنجاز لوحته، ثم إنّه لن يذهب غداً إلى المدرسة، بل سيفرغ نفسه للذهاب إلى العاصمة، وليدفع بلوحته المفترضة إلى لجنة مسابقة الإبداع الشبابي، إذن الحلّ الوحيد هو أن يستعين بأنامله الصغيرة التي لوّحت الشمس أديمها لرسم لوحته المبتغاة، وسيكون نجمه التلفزيوني المفضل غوار هو بطل لوحته. في الصباح كان طارق عساف يحتضن لوحته بحرص من يحمل إيقونه مقدسة، ويعدّ الدقائق في الباص الذي ما فتىء يتوقف ويسير، يحمّل ركاباً وينزل آخرين ليسلم لوحته إلى لجنة المسابقة، مسّد عليها بحنان بأنامله الصغيرة التي ما زالت ملطخة باللونين : الأسود والأصفر، مع أنّه بذل جهداً كبيراً ليزيل أثرهما عن أنامله،لكن دون فائدة. كانت لوحته مغلّفة بورق زينة الهدايا، وبدون إطار، مخالفة بذلك أحد الشروط الرئيسية لقبول اللوحات الفنية.
لكن أمل الفوز كان رائده، دلف إلى المركز الثقافي الذي يعجّ بمئات المتسابقين ممن هم في مثل سنه أو دونه أو أكبر مع ذويهم ؛ليقدموا أعمالهم الإبداعية في موعدها الأخير للجنة المسابقة، كان الدور كبيراً، لكنّه انتظره مبتهجاً فخوراً بلوحته، التي تفوق بجمالها ودقتها كلّ اللوحات التي رآها في أيدي أصحابها.كان صف تقديم اللوحات قصيراً مقارنةً بصف الإبداعات الادبية كالقصة والخاطرة والخطبة والقصيدة، تحفّز الأمل في نفسه بعد أن قبل موظف المركز أن يستقبل لوحته التي تفتقر إلى أهم شروط المسابقة، ووعد بأنّ يقدم لها إطاراً إن فازت. ” لعلّها تفوز ” همس في نفسه التي تضج بالإثارة والتوقّد، فهذه هي المرة الأولى التي يشارك فيها بمسابقة رفيعة المستوى كهذه، شرع يتخيّل الفرحة المنتظرة إن فاز بإحدى الجوائز الثلاث المخصصة للرسم، وإن كان يطمح للأولى منها، كم سيكون مهماً عندها !! لا بد أنّه سيكون محلّ فخر أسرته، ولا بد أنّ صورته ستغزو المجلات والصحف، ليته قدّم لهم صورة شخصية أجمل من تلك التي قدمها لهم،” ولكنّها تفي بالغرض.” حدث نفسه قائلاً من جديد.ولابدّ أنّ مدير مدرسته سيكرّمه أمام طابور الصباح، ومن يعلم قد يضع له معلم الرسم الدرجة النهائية في الرسم تقديراً لفوزه.”لا بدّ أنّي سأكون نجم المدرسة والحي إن فزت. “ أمّل نفسه قائلاّ، وهو يصفق يداً بيد متحمساً، ويقطع الشارع المقابل للمركز الثقافي، ليستقل أوّل باص يعود به إلى بيته. انتظر يوم إعلان النتائج المعلن عنه في إعلان الترشيح بفارغ الصبر، لكن لجنة المسابقة فاجأته بدعوته للمثول أمامها قبل زمن إعلان النتائج بأيام ، خفّ إليهم، يقدّم رجلاً ويؤخّر أخرى،” أستراهم سيبلغونني برفض ترشيح لوحتي بسبب عدم وجود إطار؟ ” سأل نفسه. ” هذا محتمل. ” ردّت نفسه بقنوط. ” ولكن لماذا لم يستبعدوها دون إبلاغي بذلك؟ فذلك من حقهم !” سأل نفسه من جديد.
” نحن لم نستدعك لنبلغك بقرارنا باستبعاد لوحتك ” قال كبير لجنة تحكيم اللوحات عندما سأله طارق عن سبب دعوته. - “إذن لماذا طلبتم مثولي أمامكم ” سأل طارق بفضول أحيا الأمل في قلبه. -” لكي نخبرك أنّ لوحتك قد فازت بالمركز الأوّل، وأن عليك أن تسارع بإحضار إطار لها قبل موعد إعلان النتائج بشكل رسمي “ - ” هل تعني أنّي الفائز الأوّل في حقل الرسم؟”
- هذا تماماً ما قلته.” - ” إذن أنا الفائز بالمركز الاول في حفل الرسم لهذا العام على مستوى المملكة.” - ” بالطبع يا بني ” قال المحكّم الأشيب ذو الابتسامة الواسعة، وهو يرقب طارق يكاد يطير بجناحين ذهبيين انبتتهما سعادة من لدن عالمها الساحر.
غادر طارق المركز الثقافي، وسعادة الدنيا تحرسه، فكّر في أن يوقف كلّ مارٍ في الشارع، ليخبره بأنّه الفائز بالمركز الأوّل، حدّث نفسه باحتضان سائق الباص، وتقبيل مساعده الغليظ، والزعق بأعلى صوته ” أنا الفائز “. بصعوبة أحتوى فرحته، وسرّها لحين عودته إلى البيت. كان ينوي أن يقسّم كلّ مدخراته المتواضعة بين رسوم رحلته المدرسية إلى الحّمة السورية، وبين نفقاته الشخصية في تلك الرحلة، لكن نظراً للظرف السعيد الطارئ، فقد بات من المؤكّد أنّ عليه أن يقسّم مدخراته بين الرحلة ونفقاته، وبين ثمن ابتياع إطار جميل ومناسب للوحة غوّار، التي ستتبوأ المركز الاول في الحفل الذي سيقام الأسبوع القادم، وبهكذا تدبير سوف يحصل على الحسنيين :الرحلة والجائزة. إنّها المرة الاولى التي ينعم فيها بأمرين سعيدين في أسبوع واحد. وحال انتهائه من الرحلة، سوف يهرول سريعاً بالإطار المطلوب إلى لجنة التحكيم.
هكذا كان مخطط طارق لجدولة نشاطات سعادته، لكن القدر كان قد جدول نشاطاته بطريقة مختلفة فيما يخص طارق، الذي قدّمه لقمة سائغة للموت،فقد غرق طارق في رحلته المتمناة، غرق في الحّمة السورية، كادت السعادة تحمله على جناحين من نّور، لكنّها لم تقوَ على إنقاذه من الغرق، الماء طمح إلى احتواء روحه الموهوبة، لم يبال بفرحته، ولم يرحم انتظاره لحفل توزيع الجائزة،وتجاوز بجبروت عن أحزان لوحته، فيتّمها، واختطف راسمها، وأطعمه للموت، واحتواه بلجته دون أن يشعر بأثمه، ودون أن يؤنّبه ضميره على قسوته، أو على جبروت وجوده. وعاد الأصدقاء إلى بيوتهم بملابس مبلّلة، وبصدور معرّاة، ولم يعد طارق، الذي تنتظره لوحة يتيمة في بهو المعرض الذي أُعدّ لعرض كلّ اللوحات المشاركة في المسابقة، الفائزة وغير الفائزة، لتشاركه فرحة الانتصار. كلّ الوجوه حضرت إلا وجه راسم لوحة غوّار، فقد غاب للأبد، دون أن تعلم اللوحة المنتظرة أنّها قد تيتمت منذ أيام، كادت تسأل أمّ طارق عن سبب غياب طارق، لكنّها خرست وَفْقَ قاعدة الجمادات التي لا يّسمح لها بالكلام في حضرة الإنسان الناطق الواحد، لكنّها بحثت عنه في كلّ الوجوه، تفرّست كلّ الشباب أصحاب البذلات الأنيقة، كانوا يتشحون بالأسود الأنيق ليبرز رجولتهم القادمة في هيئة رسمية تناسب المناسبة السعيدة التي هم في صددها، عطورهم العبقة ملأت الجو،وأثارت رتابته، وأبعدت عن ذهنها صورة طارق المتشح بأبيض الموت، والراكن باستسلام لرمس صغير احتواه منذ أيام. لم يطل انتظار اللوحة لطارق، بل انتهى للأبد عندما أُعلن بحضور وزيرة الثقافة عن موت طارق غرقاً، اختنق الجو بعبرات الحاضرين الذين شيعوا لوحة وصورة طارق بوافر الرثاء والحسرة، ووقفوا جميعاً احتراماً لذكراه، قارئين الفاتحة على روحه الطاهرة، حضنت وزيرة الثقافة أم طارق التي داهمتها موجة بكاء حارة كتمتها بصعوبة مذ حضرت إلى الحفل، تمنىّ جميع الحضور لو أنّ في إمكانهم حضن أم طارق؛ ليطوقوا بأسى أحزانها، وليحملوا منها قبساً من طارق. الشباب الموجودون في الحفل شعروا بخجل خاص من أجسادهم الغضّة التي تتمايل تيهاً بالبذلات الأنيقة أمام نظري أم طارق الموتورة بابنها.
جموع كبيرة من المستعبرين التفت حول لوحة طارق، ترى فيها ما لم تره قبل دقائق، حُزْنُ الحشد هيّج مشاعر اللوحة اليتيمة التي تهشّ بصمت ٍلراسمها الراحل المتشح بالأبيض، وتحنّ بشكل خاص إلى أن يدسّها تحت إبطه، وأن يغادر بها المكان شأنها في ذلك شأن اللوحات الأخرى التي سُلّمت لأصحابها في نهاية الحفل، بعد أن أُعلن عن تسمية هذه الدورة الإبداعية بدورة طارق عسّاف، لكن أمنيتها لم تتحقّق، فقليلةٌ هي أمنيات اليتامى المتحققة. استسلمت اللوحة بانكسار ليديّ أم طارق التي ضمتها بانكسارٍ إلى صدرها، وغادرت مبنى المركز الثقافي لا تلوي على شيء، وتقفل يدها بحزن على جائزة طارق المالية التي حلم أن يشتري بها علبة ألوان من النوع الفاخر
هناك تعليق واحد:
Hello. This post is likeable, and your blog is very interesting, congratulations :-). I will add in my blogroll =). If possible gives a last there on my blog, it is about the Placa de Vídeo, I hope you enjoy. The address is http://placa-de-video.blogspot.com. A hug.
إرسال تعليق