مدونة خاصة بجديد وقديم كل ما هو جميل وانساني في ميدان الفنون التشكيلية
بوكرش فنون
الأحد، 21 ديسمبر 2008
الأحد، 30 نوفمبر 2008
الثلاثاء، 15 يوليو 2008
بوكرش محمد بولاية جيجل من 4 ال 9 جويلية 2008 BOUKERCH A DJIJEL
Dr ABDALLAH AISSA LHAILAH ET BOUKERCH MOHAMED
BOUDABZA GHANIA PEINTRE
BOUKERCH MOHAMED
BOUKERCH MOHAMED CONFER
GHMIRED MedSALAH PEINTRE ET BOUKERCH
والي ولاية جيجل والفنان بوالخضرة أحمد أبو هشام 2008 بدار الثقافة جيجل الصالون الثالث ف. ت
السبت، 19 أبريل 2008
عينان في اطار ماس وعقيق أخضر / الدكتور الفنان
عينان في إطار ماس وعقيق أخضر
(( بعض ُ قصص سناء كامل شعلان تلهمني ما تلهم ... شكراً للسناء )) .
إختطفها إذ غاب زوجها ليلاً عنها ...
ما رآها قبل ساعة الإختطاف . رآها قبل ذلك مرّاتِ عدة ولكن ، محتواة في إطار من فضة مُلقى ً على منضدة زوجها طبيب الأسنان الوحيد في القرية النائية . لم يرَ في سجنها الفضي ذاك إلا عينيها تشعان فيخترق الشعاع معدن الفضة البارد . تسخن الفضة فتنتقل الحرارة إلى قلب الشاب الباحث في علم حشرات الفاكهة . يلتهب القلب ويتقد . يشتعل العصب في الجسد فتتوهج الرغبة العارمة فيه . غاب زوجها الغيور عنها لفترة قصيرة أتاحت للباحث في علم الحشرات فُرصة إختطافها بعد عذاب وصراع وجرعة قوية فوق العادة من مخدّر أدمن تعاطيه درءاً لآلام أسنانه المزمن . العشق قتال في بعض الأحايين وغريب النشأة والتفاصيل.
ألم الأضراس يقويه ويزيده غرابة ً ووحشية ً وإصراراً على نوال مَن سببته . ألم الجوى والحرمان منه لا يضاهيه إلا ألم الأسنان القاسي . الألم هو الألم ، وعصب السن واحد من أعصاب الجسد المسربل بالعشق المتوحش الضاري . إختطف معشوقته وأدخلها كوخه الصغير ليلاً . عرّاها وتعرّى . مارسها فإستمرأته . وجدته أكثر فتوة ً وشباباً وجبروتاً من زوجها العجوز الخالي العظم . نامت وقد إرتوت حباً وجنساً فلم يدعها عاشقها تواصل النوم . تذكَّر أنها أعرضت عنه مرة ً ، طردته وقد باح لها بحبه . عاودته فجأة آلام أسنانه . ألَمان متساويا الدرجة والعنف والسيطرة. ألم ذل الطرد وألم أسنانه . تسلل عاريا ً رويداً من فراش ضجعتها الأخيرة ... تناول الساطور الضخم الذي إستعاره من فلاح البساتين المجاورة المستخدم في قطع وتشذيب أطراف وفروع الشجرغير المرغوب فيها ولتكريب جذوع النخيل . أهوى به على رقبتها العاجية وكانت غارقة في أحلام النوم وهي مخدرة الجسد لكثرة ما مارست من جولات الجنس مع مَن سيذبحها بضربة ساطور معد ٍّ لا لقطع رؤوس البشر ولكن لقطع أغصان الشجر .
أما أنا ... (( أنا وقد لا أكون أنا )) ... فلقد رأيت عينيها في إطار من ذهب خالص عيار 24 قيراطاً . نادتني عيناها قبل أن أبادر للنداء . أشارت لي تعالَ فما مضيتُ . ظللتُ واقفا ً أنتظر (( وقوفا ً بها صحبي ... )) . ذاك لأني بطبعي أخشى العواقب غير المحسوبة أو غير المتوقعة . هل سيذبحني زوجها ؟ أهي متزوجة أم لم تزل عزباء في إنتظاره ؟ طال وقوفي وطال إنتظاري فمللت ولم أتشكَ . تقحّمت خوفي وإخترقت الجُدُر الزجاجية (( قصة زاجر المطر / كتاب قافلة العطش لسناء كامل )) وأُطر الذهب الخالص وحواجز الفضاء والزمان لألتقيها هناك في دارها . ما طردت أحداً قبلي . ألفيتها غير متزوجة ... إحدى حوريات الجنان ... لم يمسسها ولم يطمثها إنس ٌ ولا جان . لم تسأل أو تستوضح سبب زيارتي المفاجئة . قدّمت لي ـ كعادة قبائل الطوارق ـ الطعامَ ، وما كنتُ لأستطيع تحويل بصري وما فيه من هيام وعشق عن زمرّد عينيها وسحر جسدها وما إختارت من ملبس وألوان . خبيرة في اللون وتصاميم ملابسها . لم تتكلم كثيراً . كلامها بعيون الزمرّد والعقيق . أحياناً توظِّف أناملها في توضيح ما تود توضيحه . تتكلم بأصابع كفيها . تأمرها فتطيع وتستجيب . لم أكنْ جائعاً فأكلت أقل من القليل . رفعت الصحون وجاءتني بالشاي المهيّل والمخدّر بمسحوق القرفة ( الدارصيني ). قلت لها قد فقدت شهوتي للطعام وللشراب . سألت بعقيق محجريها لماذا ؟ أطرقتُ ولم أجبْ . أعادت السؤال بسبابة كفها اليمنى فلم أجب . أرسلت لي حزمة من موجات غامضة عاتبة تحمل لي ذات السؤال . شعرت برهبة حقيقية فوقعت تحت طغيان قوة روحها السحرية . قوة غريبة في سحرها ومفعولها . جثوتُ على ركبتي ووضعتُ رأسي في حضنها مقبِّلاً معتذراً . رفعت برقة ِ يد ملاك ٍ أو إله ٍ أسطوري ٍّ رأسي وطلبت مني أن أنهض . قالت لايليق هذا الوضع برجل مثلك . قلت كذا المحب ... هذا هو شأن مَن يعشق . لا تأخذك سيدتي الدهشة (( أردتُ لكني لم أجرؤ. أردتُ أن أقولَ لها : أهوى أن أقبِّلَ مزيج منصهر الذهب وعسل جنات الخلد في ثغركِ . في شفتيك . من بين شفتيك . مخلَّقا ً مع رضابك ... )) أفلم تقرأي قصة الباحث في علم حشرات أشجار الفاكهة وإلى أي مصير إنتهى به عشقه لزوج طبيب الأسنان العجوز ؟ قالت كان ذاك باحثا ً في علم الحشرات أمضى جُل َّ عمره يجمع ويدرس ويصنّف حيوانات صغيرة تُسمى حشرات ، لكنك باحث ٌ في علم الكيمياء والمعادن ... والبشر كما قد تعلم معادن شتى . ثم إنك لست حشاشا ً كذاك ولستَ مجنوناً . ثم إني إستقبلتك ضيفاً كريماً ولم أطردك . ثم إنَّ مَن أحبَّ صاحبُ الحشرات والحشرجات إنما أحب صورةً مؤطرة ً في إطار من فضة ، لكنك وجدتني في إطار من الذهب الإبريز والعسجد النقي الصافي من أعلى عيار وميزان ، والذهب غير الفضة . ذاك قد وقع في غرام إمرأة متزوجة وأما أنا فكما تراني لم أزل ْ في دار وعصمة أبي أنتظر الرجل الذي يستحقني وأستحق. قلتُ لها ـ وقد رفعتُ رأسي بضراعة ٍ نحوها ـ دونما إبطاء : ها إني أتيتُ إليك ماشياً على قدميِّ الجريحتين من أقصى أصقاع الدنيا ... إليك في دار أبيكِ فهل ترينني أستحقك وتستحقينني ؟ إبتعدتْ قليلاً عني مبتسمة ً في حياء فتاة بكر ٍ شرقية أصيلة سليلة أصائل . وضعت كفها على رأسي فشعرت بنشوة وقعت عليَّ من أعالي السماوات . غبتُ عني وعنها وحين عدتُ لنفسي وجدت كف َّ المرحومة جدتي لوالدتي العلوية فهيمة بنت ناصر ، أم خالي الوحيد رزوقي الذي سقط من شجرة السدر العملاقة التي تتوسط دارهم القديم ففارق على الفور الحياة ، وجدت ُ كفها المرتعش على رأسي تتعوّذ وتبسمل وتقرأ شيئاً من آي القرآن الكريم وتنقر بالكف الأخرى على أرض الغرفة نقرات ٍ متتتالية ً رتيبة الإيقاع . كان هذا دأبها معي ومع باقي إخوتي كلما شعرتُ بألم في رأسي زمان طفولتي . أحببت هذا الطقس حد َّ الإدمان حتى لقد كنتُ أفتعل صداع الرأس لتمارس المرحومة فهيمة معي ذات الطقوس الغامضة في أغلبها . تراتيل دينية وأدعية وشفرات شديدة الغموض ودفء حضن الجدّة وصمت الأهل خاشعين متضامنين مع هيبة العجوز الطاعنة في السن ومع طفلهم المتمارض الصغير . ما أن ْ وضعت عقيقية العينين ذهبية الإهاب والهيبة كفها فوق رأسي حتى عدتُ لطفولتي المبكرة محمولاً على بُراق لا يعرف حكم الزمن ... بُراق يطير بسرعة البرق ضد مسار الزمن . يقول الشعراء إنَّ الحب سُكر ٌ ومَن لا يسكرُ لا يعرف معنى الحب ولا يتذوق طعمه حلواً أكان الطعمُ أو مرّا ً . سكرتُ بالفعل بين يديها وغبت عن الوعي والزمن . لم أسال نفسي عن سبب وسر تجاوبها معي حتى تذكرتُ ما قالت لي قبل قليل : إنك كيميائي تتعامل والمعادن والبشر معادن . معها كل الحق . إنها فيلسوفة . الذي يتعامل مع المعادن يجيد التعامل مع البشر . ثم إنَّ الكيمياء سحر مُذ ْ عهود فراعنة مصر الأقدمين . هناك بدأت الكيمياء في معابد الفراعنة حيث أفلح كهّان هذه المعابد في تحضير مستلزمات التحنيط وكيمياويات حفظ الأجساد والأنسجة القطنية والصوفية والكتانية من التلف والرطوبة . فضلاً عن تحضير الألوان الثابتة التي تتحدى الزمن وتبقى محافظة ً على رونقها وبقيت لآلاف السنين . أنا كيميائي إذا ً حسبما قالت ساحرتي الفرعونية ورائحة الكافور ومسحوق القرنفل والمسك والحناء تفوح من بدلتها الكتانية الطويلة ومن بين خصلات شعرها المدلاة على كتفيها ومن خلل أناملها الدقيقة التكوين المطلية الأظافر بمزيج معجون الند والزعفران وخلاصة أندر الأزهار والورود . (( أنتَ كيميائي )) ... قالت ، والكيمياء سحر ... إذا ً سأسحرها أو أسحر لها فعسى ان تعشقني كما عشقتها ... عسى أن تحبني كما أحببتها ... وإلا فلسوف أطلب منها أن تقتلني ... أن تحز َّ رقبتي بساطور الحشاش خبير الحشرات . لم يقتل ذاك الخبير حشرةً لكنْ قتل بشراً ، قتل إمرأة ً حية ً من لحم وعظم ودم . فهل ترى أمسخ نفسي حشرة ً صغيرة ً لكي تقتلني بإصبعها صاحبتي الفرعونية الشديدة الرقة أو أن تدوس عليَّ ولو من باب السهو بأحد قدميها لأترك عليها تذكارا ً لحبي شيئا ً من دمي ، ودمي يحمل إسمي وجيناتي وتوقيعي الذي تعرف ؟ الموت تحت أقدام الحبيب أفضل وأهون من الموت بساطور تكريب جذوع النخيل ... لا ريبَ . ما أن فرغتُ من قول هذا الكلام حتى تناهي لمسمعي صوت ٌ قوي ٌّ جَهوري ٌّ أتاني من البرية صارخاً : كلا كلا ... سأعيرُ حبيبتك ومليكتك الفرعونية ساطورَ تكريب جذوع نخيل [ دقلة النور ] في واحة وصحراء [ توزر ] التونسية لكي تقصفَ به رقبتك لأنك جبان ٌ خانع ُ وذليل... ليس فيك شئ من رجولتي . لا تركع أمام مَن تحب . لا تطأطئ رأسك حتى لكف جدتك لأمك . كنتُ أشجعَ منك فحولة ً ورجولة ً وأشد َّمضاء ً . إختطفت التي أحببتُ ... قدتها كقطة ذليلة جائعة لكوخي عنوة ً ... عريتها ... مارستها دون حساب حتى خارت قوايَ وقواها فنامت كما لم تنم ْ من قبلُ ... ثم تعرف ما جرى بعد ذلك !! الحب مقتلة تنتهي في جولة واحدة ميدانها الفراش . تخرج منها إما قاتلاً أو مقتولاً . أفلم يقل الفيلسوف نيتشة إنَّ في الحب حقدا ً أسودَ وكرهاً لا حدودَ لهما ؟ أفلم يقلْ هذا الرجل ُ المعتوه إن َّ في الحروب والغزوات حباً وعشقاً مخفيين دفينين عميقاً في أعماق نفوس البشر منذ أزمنة وعصور الصيد ؟ من غير حب لا تستطيع أكل صيدك . تجري كأي عاشق حقيقي سريعاً وراء صيدك حتى تتمكنَ منه فتقتله لكي تتناوله طعاماً سائغاً نيئاً قبل إكتشاف النار أو مشوياً بعد إكتشافها ؟ الحرب قتل وفي القتل حب شاذ سادي ولكنه يبقى حباً رغم آناف البشر . توقف صوتُ أو صدى القاتل ِ حبيبته ِ فأصابني صُداع في رأسي وآلام ٌ مبرِّحة ٌ في أسناني : أحقاً ما قال هذا الرجل خبيرُ الحشرات الذي حذا حذو َ الشاعر ديك الجن الحمصي الشامي إذ قتل حبيبته غيرة ً عليها ثم َّ أحرق جثتها وجبل من رمادها قدحاً لخمرة سكره ؟ هل عرف هذا الشاعر أو قرأ عنه ؟ هل زار مدينة حمص أو واحةَ توزر حيث نخيل تمور دقلة النور ؟ هل كان سيقتل الصبية البربرية السمراء التي تحمل ويا للصدفة إسم ( دقلة النور ) لو كانت صدته وأعرضت عنه ولم تستجبْ لنداءات إغوائه وإغراءات ما عرض عليها من دولارات أمريكية ومما أغدق عليه شيوخ الخليج من أموال كي يسمسر َ لهم ويعرِّص ويزرعَ في رأسه شتلتي قرنين إثتين من قرون القوادين بدل َ فسيلتي نخيل ؟ هل كان سيحز رأسها كما يفعل الجزارون مع رؤوس الضأن والغنم والماشية ؟ أتاني صوت الصبية دقلة النور صافياً رقراقاً قوياً حيث قالت : لا تنسَ أيها العاشق النبيل أنَّ وجودَ شبح الشاعر أبي القاسم الشابي فوق التلة الترابية التي تشرف على ما نصب على مسطّح الرمال شيوخ الخليج من خيام وفساطيط هائلة وما نضدوا فيها من زرابي َ ونمارق ... مجرد ظهور هذا الشبح أذاب الشيوخ وخيامهم وسياراتهم الباذخة وسمسارهم ذا النظارة السوداء طويل القامة فتبخروا سوية ً مع تجار تهريب فسائل نخيل دقلة النور المشبوهين القادمين من ولاية كالفورنيا الأمريكية خصيصا ً لتهريب سيد الشجر النخيل والبشر المتواضع من فلاحي الواحات . إختفى صوت الصبية البربرية الشريفة العفيفة فأتاني صوتُ أبي العلاء المعرّي جهورياً يشق عنان صحراء توزر مادحاً ومبجلا ً النخيل في شعر يتذكر فيه إقامته في بغداد :
شربنا ماءَ دجلة َ خيرَ ماء ٍ
وزُرنا أشرفَ الشَجر ِ النخيلا
إشارة ً منه للنخلة التي ورد ذكرها مرتين في سورة مريم ، المرة الأولى في الآية [[ فأجاءها المخاض ُ إلى جذعِ النخلة ِ ... / الآية 23 ]] والثانية في الآية [[ وهُزّي إليكٍ بجذع ِ النخلة ِ تُساقط ْ عليكِ رُطباً جنيا / الآية 25 ]] .
أنتهى الفيلم المعروض أمامي على شاشة التلفزيون فصحوت من رقدتي وحلمي العميق << أنام عادةً أمام شاشة التلفزيون ونظارتي على عيني َّ والكتاب في حضني !! >> . فتحت عينيَّ المتعبتين الحمراوين باحثاً عن تفاصيل ما قد رأيتُ في حُلمي فلم أعثر على أي أثر ٍ منها سوى لوحة هائلة القياسات بدون إطار لصورة وجه لا أروعَ منه ولا أجمل تغطي أحد جدران شقتي كاملاً . تفحصت ُ وجه َ وعيني صاحبة الصورة فعدتُ لنومي مسحوراً بتعويذة ٍ سحرٍ مصرية ٍ فرعونية ٍ غيرَ مصدق ٍ ما ترى عيناي : صورة سناء كامل الشعلان كما رأيتها قبل يومين في موقع الصديق الفنان الناقد الجزائري محمد بوكرش . ركزتُ بصري فرأيت في أسفل الصورة إسمَ الفنان الغريق الذي رسم الصورة : طارق العسّاف !!
ملاحظة هامة : في هذه القصة الخيالية تفاصيل أخذتها بتصرف من قصص كتاب { أرض الحكايا / منشورات نادي الجسرة الثقافي الإجتماعي ، قطر ، 2007 } للدكتورة سناء كامل شعلان . القصص التي عنيت ُ هي حسب تسلسل ورودها هنا : الصورة / دقلة النور / اللوحة اليتيمة .
عينان في اطار ماس وعقيق أخضر / الدكتور الفنان
عينان في إطار ماس وعقيق أخضر
(( بعض ُ قصص سناء كامل شعلان تلهمني ما تلهم ... شكراً للسناء )) .
إختطفها إذ غاب زوجها ليلاً عنها ...
ما رآها قبل ساعة الإختطاف . رآها قبل ذلك مرّاتِ عدة ولكن ، محتواة في إطار من فضة مُلقى ً على منضدة زوجها طبيب الأسنان الوحيد في القرية النائية . لم يرَ في سجنها الفضي ذاك إلا عينيها تشعان فيخترق الشعاع معدن الفضة البارد . تسخن الفضة فتنتقل الحرارة إلى قلب الشاب الباحث في علم حشرات الفاكهة . يلتهب القلب ويتقد . يشتعل العصب في الجسد فتتوهج الرغبة العارمة فيه . غاب زوجها الغيور عنها لفترة قصيرة أتاحت للباحث في علم الحشرات فُرصة إختطافها بعد عذاب وصراع وجرعة قوية فوق العادة من مخدّر أدمن تعاطيه درءاً لآلام أسنانه المزمن . العشق قتال في بعض الأحايين وغريب النشأة والتفاصيل.
ألم الأضراس يقويه ويزيده غرابة ً ووحشية ً وإصراراً على نوال مَن سببته . ألم الجوى والحرمان منه لا يضاهيه إلا ألم الأسنان القاسي . الألم هو الألم ، وعصب السن واحد من أعصاب الجسد المسربل بالعشق المتوحش الضاري . إختطف معشوقته وأدخلها كوخه الصغير ليلاً . عرّاها وتعرّى . مارسها فإستمرأته . وجدته أكثر فتوة ً وشباباً وجبروتاً من زوجها العجوز الخالي العظم . نامت وقد إرتوت حباً وجنساً فلم يدعها عاشقها تواصل النوم . تذكَّر أنها أعرضت عنه مرة ً ، طردته وقد باح لها بحبه . عاودته فجأة آلام أسنانه . ألَمان متساويا الدرجة والعنف والسيطرة. ألم ذل الطرد وألم أسنانه . تسلل عاريا ً رويداً من فراش ضجعتها الأخيرة ... تناول الساطور الضخم الذي إستعاره من فلاح البساتين المجاورة المستخدم في قطع وتشذيب أطراف وفروع الشجرغير المرغوب فيها ولتكريب جذوع النخيل . أهوى به على رقبتها العاجية وكانت غارقة في أحلام النوم وهي مخدرة الجسد لكثرة ما مارست من جولات الجنس مع مَن سيذبحها بضربة ساطور معد ٍّ لا لقطع رؤوس البشر ولكن لقطع أغصان الشجر .
أما أنا ... (( أنا وقد لا أكون أنا )) ... فلقد رأيت عينيها في إطار من ذهب خالص عيار 24 قيراطاً . نادتني عيناها قبل أن أبادر للنداء . أشارت لي تعالَ فما مضيتُ . ظللتُ واقفا ً أنتظر (( وقوفا ً بها صحبي ... )) . ذاك لأني بطبعي أخشى العواقب غير المحسوبة أو غير المتوقعة . هل سيذبحني زوجها ؟ أهي متزوجة أم لم تزل عزباء في إنتظاره ؟ طال وقوفي وطال إنتظاري فمللت ولم أتشكَ . تقحّمت خوفي وإخترقت الجُدُر الزجاجية (( قصة زاجر المطر / كتاب قافلة العطش لسناء كامل )) وأُطر الذهب الخالص وحواجز الفضاء والزمان لألتقيها هناك في دارها . ما طردت أحداً قبلي . ألفيتها غير متزوجة ... إحدى حوريات الجنان ... لم يمسسها ولم يطمثها إنس ٌ ولا جان . لم تسأل أو تستوضح سبب زيارتي المفاجئة . قدّمت لي ـ كعادة قبائل الطوارق ـ الطعامَ ، وما كنتُ لأستطيع تحويل بصري وما فيه من هيام وعشق عن زمرّد عينيها وسحر جسدها وما إختارت من ملبس وألوان . خبيرة في اللون وتصاميم ملابسها . لم تتكلم كثيراً . كلامها بعيون الزمرّد والعقيق . أحياناً توظِّف أناملها في توضيح ما تود توضيحه . تتكلم بأصابع كفيها . تأمرها فتطيع وتستجيب . لم أكنْ جائعاً فأكلت أقل من القليل . رفعت الصحون وجاءتني بالشاي المهيّل والمخدّر بمسحوق القرفة ( الدارصيني ). قلت لها قد فقدت شهوتي للطعام وللشراب . سألت بعقيق محجريها لماذا ؟ أطرقتُ ولم أجبْ . أعادت السؤال بسبابة كفها اليمنى فلم أجب . أرسلت لي حزمة من موجات غامضة عاتبة تحمل لي ذات السؤال . شعرت برهبة حقيقية فوقعت تحت طغيان قوة روحها السحرية . قوة غريبة في سحرها ومفعولها . جثوتُ على ركبتي ووضعتُ رأسي في حضنها مقبِّلاً معتذراً . رفعت برقة ِ يد ملاك ٍ أو إله ٍ أسطوري ٍّ رأسي وطلبت مني أن أنهض . قالت لايليق هذا الوضع برجل مثلك . قلت كذا المحب ... هذا هو شأن مَن يعشق . لا تأخذك سيدتي الدهشة (( أردتُ لكني لم أجرؤ. أردتُ أن أقولَ لها : أهوى أن أقبِّلَ مزيج منصهر الذهب وعسل جنات الخلد في ثغركِ . في شفتيك . من بين شفتيك . مخلَّقا ً مع رضابك ... )) أفلم تقرأي قصة الباحث في علم حشرات أشجار الفاكهة وإلى أي مصير إنتهى به عشقه لزوج طبيب الأسنان العجوز ؟ قالت كان ذاك باحثا ً في علم الحشرات أمضى جُل َّ عمره يجمع ويدرس ويصنّف حيوانات صغيرة تُسمى حشرات ، لكنك باحث ٌ في علم الكيمياء والمعادن ... والبشر كما قد تعلم معادن شتى . ثم إنك لست حشاشا ً كذاك ولستَ مجنوناً . ثم إني إستقبلتك ضيفاً كريماً ولم أطردك . ثم إنَّ مَن أحبَّ صاحبُ الحشرات والحشرجات إنما أحب صورةً مؤطرة ً في إطار من فضة ، لكنك وجدتني في إطار من الذهب الإبريز والعسجد النقي الصافي من أعلى عيار وميزان ، والذهب غير الفضة . ذاك قد وقع في غرام إمرأة متزوجة وأما أنا فكما تراني لم أزل ْ في دار وعصمة أبي أنتظر الرجل الذي يستحقني وأستحق. قلتُ لها ـ وقد رفعتُ رأسي بضراعة ٍ نحوها ـ دونما إبطاء : ها إني أتيتُ إليك ماشياً على قدميِّ الجريحتين من أقصى أصقاع الدنيا ... إليك في دار أبيكِ فهل ترينني أستحقك وتستحقينني ؟ إبتعدتْ قليلاً عني مبتسمة ً في حياء فتاة بكر ٍ شرقية أصيلة سليلة أصائل . وضعت كفها على رأسي فشعرت بنشوة وقعت عليَّ من أعالي السماوات . غبتُ عني وعنها وحين عدتُ لنفسي وجدت كف َّ المرحومة جدتي لوالدتي العلوية فهيمة بنت ناصر ، أم خالي الوحيد رزوقي الذي سقط من شجرة السدر العملاقة التي تتوسط دارهم القديم ففارق على الفور الحياة ، وجدت ُ كفها المرتعش على رأسي تتعوّذ وتبسمل وتقرأ شيئاً من آي القرآن الكريم وتنقر بالكف الأخرى على أرض الغرفة نقرات ٍ متتتالية ً رتيبة الإيقاع . كان هذا دأبها معي ومع باقي إخوتي كلما شعرتُ بألم في رأسي زمان طفولتي . أحببت هذا الطقس حد َّ الإدمان حتى لقد كنتُ أفتعل صداع الرأس لتمارس المرحومة فهيمة معي ذات الطقوس الغامضة في أغلبها . تراتيل دينية وأدعية وشفرات شديدة الغموض ودفء حضن الجدّة وصمت الأهل خاشعين متضامنين مع هيبة العجوز الطاعنة في السن ومع طفلهم المتمارض الصغير . ما أن ْ وضعت عقيقية العينين ذهبية الإهاب والهيبة كفها فوق رأسي حتى عدتُ لطفولتي المبكرة محمولاً على بُراق لا يعرف حكم الزمن ... بُراق يطير بسرعة البرق ضد مسار الزمن . يقول الشعراء إنَّ الحب سُكر ٌ ومَن لا يسكرُ لا يعرف معنى الحب ولا يتذوق طعمه حلواً أكان الطعمُ أو مرّا ً . سكرتُ بالفعل بين يديها وغبت عن الوعي والزمن . لم أسال نفسي عن سبب وسر تجاوبها معي حتى تذكرتُ ما قالت لي قبل قليل : إنك كيميائي تتعامل والمعادن والبشر معادن . معها كل الحق . إنها فيلسوفة . الذي يتعامل مع المعادن يجيد التعامل مع البشر . ثم إنَّ الكيمياء سحر مُذ ْ عهود فراعنة مصر الأقدمين . هناك بدأت الكيمياء في معابد الفراعنة حيث أفلح كهّان هذه المعابد في تحضير مستلزمات التحنيط وكيمياويات حفظ الأجساد والأنسجة القطنية والصوفية والكتانية من التلف والرطوبة . فضلاً عن تحضير الألوان الثابتة التي تتحدى الزمن وتبقى محافظة ً على رونقها وبقيت لآلاف السنين . أنا كيميائي إذا ً حسبما قالت ساحرتي الفرعونية ورائحة الكافور ومسحوق القرنفل والمسك والحناء تفوح من بدلتها الكتانية الطويلة ومن بين خصلات شعرها المدلاة على كتفيها ومن خلل أناملها الدقيقة التكوين المطلية الأظافر بمزيج معجون الند والزعفران وخلاصة أندر الأزهار والورود . (( أنتَ كيميائي )) ... قالت ، والكيمياء سحر ... إذا ً سأسحرها أو أسحر لها فعسى ان تعشقني كما عشقتها ... عسى أن تحبني كما أحببتها ... وإلا فلسوف أطلب منها أن تقتلني ... أن تحز َّ رقبتي بساطور الحشاش خبير الحشرات . لم يقتل ذاك الخبير حشرةً لكنْ قتل بشراً ، قتل إمرأة ً حية ً من لحم وعظم ودم . فهل ترى أمسخ نفسي حشرة ً صغيرة ً لكي تقتلني بإصبعها صاحبتي الفرعونية الشديدة الرقة أو أن تدوس عليَّ ولو من باب السهو بأحد قدميها لأترك عليها تذكارا ً لحبي شيئا ً من دمي ، ودمي يحمل إسمي وجيناتي وتوقيعي الذي تعرف ؟ الموت تحت أقدام الحبيب أفضل وأهون من الموت بساطور تكريب جذوع النخيل ... لا ريبَ . ما أن فرغتُ من قول هذا الكلام حتى تناهي لمسمعي صوت ٌ قوي ٌّ جَهوري ٌّ أتاني من البرية صارخاً : كلا كلا ... سأعيرُ حبيبتك ومليكتك الفرعونية ساطورَ تكريب جذوع نخيل [ دقلة النور ] في واحة وصحراء [ توزر ] التونسية لكي تقصفَ به رقبتك لأنك جبان ٌ خانع ُ وذليل... ليس فيك شئ من رجولتي . لا تركع أمام مَن تحب . لا تطأطئ رأسك حتى لكف جدتك لأمك . كنتُ أشجعَ منك فحولة ً ورجولة ً وأشد َّمضاء ً . إختطفت التي أحببتُ ... قدتها كقطة ذليلة جائعة لكوخي عنوة ً ... عريتها ... مارستها دون حساب حتى خارت قوايَ وقواها فنامت كما لم تنم ْ من قبلُ ... ثم تعرف ما جرى بعد ذلك !! الحب مقتلة تنتهي في جولة واحدة ميدانها الفراش . تخرج منها إما قاتلاً أو مقتولاً . أفلم يقل الفيلسوف نيتشة إنَّ في الحب حقدا ً أسودَ وكرهاً لا حدودَ لهما ؟ أفلم يقلْ هذا الرجل ُ المعتوه إن َّ في الحروب والغزوات حباً وعشقاً مخفيين دفينين عميقاً في أعماق نفوس البشر منذ أزمنة وعصور الصيد ؟ من غير حب لا تستطيع أكل صيدك . تجري كأي عاشق حقيقي سريعاً وراء صيدك حتى تتمكنَ منه فتقتله لكي تتناوله طعاماً سائغاً نيئاً قبل إكتشاف النار أو مشوياً بعد إكتشافها ؟ الحرب قتل وفي القتل حب شاذ سادي ولكنه يبقى حباً رغم آناف البشر . توقف صوتُ أو صدى القاتل ِ حبيبته ِ فأصابني صُداع في رأسي وآلام ٌ مبرِّحة ٌ في أسناني : أحقاً ما قال هذا الرجل خبيرُ الحشرات الذي حذا حذو َ الشاعر ديك الجن الحمصي الشامي إذ قتل حبيبته غيرة ً عليها ثم َّ أحرق جثتها وجبل من رمادها قدحاً لخمرة سكره ؟ هل عرف هذا الشاعر أو قرأ عنه ؟ هل زار مدينة حمص أو واحةَ توزر حيث نخيل تمور دقلة النور ؟ هل كان سيقتل الصبية البربرية السمراء التي تحمل ويا للصدفة إسم ( دقلة النور ) لو كانت صدته وأعرضت عنه ولم تستجبْ لنداءات إغوائه وإغراءات ما عرض عليها من دولارات أمريكية ومما أغدق عليه شيوخ الخليج من أموال كي يسمسر َ لهم ويعرِّص ويزرعَ في رأسه شتلتي قرنين إثتين من قرون القوادين بدل َ فسيلتي نخيل ؟ هل كان سيحز رأسها كما يفعل الجزارون مع رؤوس الضأن والغنم والماشية ؟ أتاني صوت الصبية دقلة النور صافياً رقراقاً قوياً حيث قالت : لا تنسَ أيها العاشق النبيل أنَّ وجودَ شبح الشاعر أبي القاسم الشابي فوق التلة الترابية التي تشرف على ما نصب على مسطّح الرمال شيوخ الخليج من خيام وفساطيط هائلة وما نضدوا فيها من زرابي َ ونمارق ... مجرد ظهور هذا الشبح أذاب الشيوخ وخيامهم وسياراتهم الباذخة وسمسارهم ذا النظارة السوداء طويل القامة فتبخروا سوية ً مع تجار تهريب فسائل نخيل دقلة النور المشبوهين القادمين من ولاية كالفورنيا الأمريكية خصيصا ً لتهريب سيد الشجر النخيل والبشر المتواضع من فلاحي الواحات . إختفى صوت الصبية البربرية الشريفة العفيفة فأتاني صوتُ أبي العلاء المعرّي جهورياً يشق عنان صحراء توزر مادحاً ومبجلا ً النخيل في شعر يتذكر فيه إقامته في بغداد :
شربنا ماءَ دجلة َ خيرَ ماء ٍ
وزُرنا أشرفَ الشَجر ِ النخيلا
إشارة ً منه للنخلة التي ورد ذكرها مرتين في سورة مريم ، المرة الأولى في الآية [[ فأجاءها المخاض ُ إلى جذعِ النخلة ِ ... / الآية 23 ]] والثانية في الآية [[ وهُزّي إليكٍ بجذع ِ النخلة ِ تُساقط ْ عليكِ رُطباً جنيا / الآية 25 ]] .
أنتهى الفيلم المعروض أمامي على شاشة التلفزيون فصحوت من رقدتي وحلمي العميق << أنام عادةً أمام شاشة التلفزيون ونظارتي على عيني َّ والكتاب في حضني !! >> . فتحت عينيَّ المتعبتين الحمراوين باحثاً عن تفاصيل ما قد رأيتُ في حُلمي فلم أعثر على أي أثر ٍ منها سوى لوحة هائلة القياسات بدون إطار لصورة وجه لا أروعَ منه ولا أجمل تغطي أحد جدران شقتي كاملاً . تفحصت ُ وجه َ وعيني صاحبة الصورة فعدتُ لنومي مسحوراً بتعويذة ٍ سحرٍ مصرية ٍ فرعونية ٍ غيرَ مصدق ٍ ما ترى عيناي : صورة سناء كامل الشعلان كما رأيتها قبل يومين في موقع الصديق الفنان الناقد الجزائري محمد بوكرش . ركزتُ بصري فرأيت في أسفل الصورة إسمَ الفنان الغريق الذي رسم الصورة : طارق العسّاف !!
ملاحظة هامة : في هذه القصة الخيالية تفاصيل أخذتها بتصرف من قصص كتاب { أرض الحكايا / منشورات نادي الجسرة الثقافي الإجتماعي ، قطر ، 2007 } للدكتورة سناء كامل شعلان . القصص التي عنيت ُ هي حسب تسلسل ورودها هنا : الصورة / دقلة النور / اللوحة اليتيمة .
الجمعة، 18 أبريل 2008
ضيفة شرف فنون بوكرش
اللوحة اليتيمة
د. سناء شعلان
“
قصة حقيقية”
De :
sanaa shalan (selenapollo@hotmail.com)
Envoyé :
ven. 18/04/08 17:42
À :
mohamed boukerch (boukerchmohamed@hotmail.com); عدنان الظاهر (aldhahir35@yahoo.de)
اللوحة ال…doc (51,3 Ko)
مساء الورد صديقي الراقي السيد محمد بوكرش:
تحية طيبة وبعد:
أشكرك على رسالتك اللطيفة، التي تعكس رقيك، وجمال مشاعرك، وأشكرك على زهرتك الابن الذي حمل لي زهرة تقل عنه جمالاً ونقاء وصفاء
صديقي الفاضل:
فكرت طويلاً ماذا أهديك مقابل جمال هديتك،فاهتديتُ إلى الكلمة، أنا أهديك هذه القصة من تأليفي؛ لتنشرها في موقعك، لاسيما أنّها مسكونة بجمال الفن وهاجس الإبداع والخلق، وهي قصة حقيقة لفنان صغير سرقه الموت مبكراً. وكلّ الشكر للصديق الدكتور عدنان الظاهر، فلطالما كان السّبب في تعريفي بالأناس الطّيبة الجميلة، ومن يكون دكتور عدنان رائده، فهو سيكتشف الكثير من الجمال والسّحر والجديد الخلاب.
ولك ودي
د. سناء شعلان/ الأردن
” إلى روح طارق العسّاف الذي ابتعله الماء، ويتّم لوحته “
ثُبِتتْ على واجهة مخملية بارزة، الأضواء المُسلّطة عليها أبرزت أحزانها ووحدتها، كانت تقبع في صدر المعرض، تواجه تماما ًعينيّ كلّ من يدلف إلى القاعة ذات البلاط الرخامي والجدران المخمّرة بستائر مخملية خضراء، حصلت على الكثير من الصور الفوتوغرافية من قبل مراسلي الصحف والمجلات، كانت تراقب جموع الحاضرين بحزن خاص يناسب خطوطها السوداء التي تحاصر بقعاً لونية صفراء يتيمة في حدادٍ أسود.
كلّ لوحة من اللوحات التي كانت مصلوبة مثلها على واجهة مخملية نعمت بحشدٍ من الأصدقاء والمعارف، وبابتسامة عريضة على وجه راسمها إلا هي، فقد كانت وحيدة، تفتقد جموعاً تحمل ابتسامة فوز، وتفتقد بشكل خاص أنامل صغيرة رسمتها على عَجل. كانت لوحة ًتشكيليةً تحمل اسم ” غوّار “، رسمها طارق العسّاف ؛ ليكرّس بها أحلام الطفولة، وليبرز فيها شخصية طفولته المفضلة المتجسدة في غوّار، وليبث في ألوانها القاتمة خيالات حرمانه، وليزرع في بقعها الصفراء أمل رجولته التي تقف على أعتاب طفولته، لتدلف إلى جسده، فتكونه رجلاً أسمر بازغاً من شابٍ نحيلٍ صغيرٍ، في عينيه العسجدتين آلاف الطائرات الورقية ذات الأذيال المزركشة التي تطير فوق سطح بيته، فيطاردها بعبثية وشقاوة هما أجمل ما في طفولته البريئة، ثم يرسمها بألوان خرافية لا يملك أن يشتري أيّاً منها ؛ لأنّه لا يريد أن يكبّد أسرته المستورة الحال أيّ نفقات إضافية، ولو كانت نفقات زهيدة، ليرسم بها لوحة صغيرة تفتح طاقة على أحلامه، وعلى موهبته المتفتحة كزهرة بريّة.
لم يذهب إلى مدرسة الفنون، ولم يلتحق بأي نادٍ للرسم، وقليلة هي حصص الرسم التي عرفها في مدرسته الحكومية القديمة، ذات الأسوار المهترئة، لكن قلبه كان ينبوعاًً للصور والألوان، كان يتقن لغة الصّور، ويفكّ رموز وطلاسم الألون، يكفيه أن يبتسم ابتسامته الخجولة السمراء، ثم ينتحي زاوية لدقائق أو لساعاتٍ، قد يقعد القرفصاء، ويسند اللوحة إلى حضنه، وقد يركن بها إلى أيّ حائط قريب، ثم يشرع بكسي عريها بألوانه، خطوط تنبع من قلبه، ألوان تمتزج بمقدار ذوقه، ووفق غريزته التي جُبلت بقدرة عجيبة على تذوق الألوان، واستجلاء جمالياتها، واللعب بظلالها ودرجاتها، دقائق من العمل الهادئ المنقطع على ذاته، ثم تكون اللوحة، التي يطير فرحاً بها، تفخر طفولته الولود بلوحته المولود الجديد، يدور بها على أهل البيت، يعرض عليهم سحنتها الجميلة، يتبّرع بشرح معانيها، ثم تلاقي مصيرها، قد تكون هدية لصديق، أو واجباً مدرسياً لمعلم الفن، أو مساعدة سخية لأحد أبناء الجيران الذين تقصّر موهبتهم دون رسم لوحة تقتضيها حاجتهم في المدرسة أو في الجامعة أو حتى في مسابقة. موهبته كانت كنزه الذي لا تمانع نفسه الطاهرة في مشاركة أي أحدٍ به، بل يسرّه أن يطلع أيّ أحدٍ على وافر سحره، وجلي إبداعه، وإن كانت أمّه ترجو أن يكون نصيبه من الدراسة والاجتهاد والحياة والحظ بقدر نصيبه من ملكة الألوان، ومن سلطان حضورها، تتأمّل لوحاته، تقرّبها من صدرها، تبتسم له ابتسامة عريضة تتربّع في قسماتها الهادئة، ثم تقول مقيمةً إيّاها: ” رائعة”. فيبتسم طارق الذي يرفض أن تضمه إلى صدرها، وأن تقبّله ؛ لأنّه رجل، والرجال في عُرف طفولته لا تقبّلهم أمهاتهم كالأطفال الصغار. يأخذ لوحته، ويطير بها إلى سرب الأصدقاء، وما أكثرهم كانوا في ركب المدرسة، وعرصات الحي وملعب كرة القدم الترابي الممتدّ على طول الشريط الغربي للحي الذي يسكنه !!
كان مصروفه قد نَفِِدَ تماماً إلا من قروش معدودة عندما عرف من أحد الأصدقاء القليلين الذين يشترون الصحيفة اليومية أنّ مسابقة إبداعية للشباب على مستوى الدولة تفتح أبوابها للشباب الصغار مثله للتقدّم لمسابقة الرسم بلوحات من رسمهم، كان باب قبول اللوحات يكاد يغلق بعد يوم، ولكن المبلغ المرصود للجائزة كان مبلغاً مستحيلاً وحلماً خيالياً لطفولته الجافة، قدر أنّه بهكذا مبلغ كبير يستطيع أن يجود بعشرات الهدايا على عائلته، ولا سيما على أمّه الحنون التي يجد حنان الدنيا في حضنها، بل ويستطيع أن يشتري عدّة رسم كاملة، ومن أجود الأنواع من محلات الرسم المتخصصة في العاصمة، لكن عليه قبل دراسة خطة إنفاق الجائزة المأمول فيها أن يرسم اللوحة المناسبة، وأن يوصلها بنفسه إلى المركز الثقافي الملكي، حيث تسلّم اللوحات المشاركة وَفْق ما هو مكتوب في الإعلان. ليلة واحدة كانت أمامه لرسم لوحته، كانت ذاكرته مخزناً يعجّ بآلاف الصّور والخطوط، ولكن المشكلة كانت في الألوان، وفي القماش الذي يحتاجه ليرسم عليه، ثم في الإطار الذي تشترط لجنة المسابقة الإبداع الشبابي أن يتوّفر للوحة ؛ ليعطيها الهيبة والشكل المطلوبين، لكنّه لم يكن يملك من الألوان إلا الأسود والأصفر، ثم أنّ لا وقت عنده لتجهيز الإطار المطلوب، فضلاً عن أنّ مصروفه الشهري كاد ينفد، ولا يستطيع أن يكبّد عائلته المزيد من النفقات،” إذن ما العمل؟! ” حدثّ نفسه.
كانت عدّة رسمه تنحصر في الوقت الحاضر في لونين وقطعة قماش، وخلا ذلك لا شيء، حتى أنّه لم يكن يملك فرشاة رسم، ولم يكن هناك وقت لينتظر الصباح ؛ ليمر علىّ معلم الرسم في المدرسة،ليستعير منه فرشاة رسم لحين إنجاز لوحته، ثم إنّه لن يذهب غداً إلى المدرسة، بل سيفرغ نفسه للذهاب إلى العاصمة، وليدفع بلوحته المفترضة إلى لجنة مسابقة الإبداع الشبابي، إذن الحلّ الوحيد هو أن يستعين بأنامله الصغيرة التي لوّحت الشمس أديمها لرسم لوحته المبتغاة، وسيكون نجمه التلفزيوني المفضل غوار هو بطل لوحته. في الصباح كان طارق عساف يحتضن لوحته بحرص من يحمل إيقونه مقدسة، ويعدّ الدقائق في الباص الذي ما فتىء يتوقف ويسير، يحمّل ركاباً وينزل آخرين ليسلم لوحته إلى لجنة المسابقة، مسّد عليها بحنان بأنامله الصغيرة التي ما زالت ملطخة باللونين : الأسود والأصفر، مع أنّه بذل جهداً كبيراً ليزيل أثرهما عن أنامله،لكن دون فائدة. كانت لوحته مغلّفة بورق زينة الهدايا، وبدون إطار، مخالفة بذلك أحد الشروط الرئيسية لقبول اللوحات الفنية.
لكن أمل الفوز كان رائده، دلف إلى المركز الثقافي الذي يعجّ بمئات المتسابقين ممن هم في مثل سنه أو دونه أو أكبر مع ذويهم ؛ليقدموا أعمالهم الإبداعية في موعدها الأخير للجنة المسابقة، كان الدور كبيراً، لكنّه انتظره مبتهجاً فخوراً بلوحته، التي تفوق بجمالها ودقتها كلّ اللوحات التي رآها في أيدي أصحابها.كان صف تقديم اللوحات قصيراً مقارنةً بصف الإبداعات الادبية كالقصة والخاطرة والخطبة والقصيدة، تحفّز الأمل في نفسه بعد أن قبل موظف المركز أن يستقبل لوحته التي تفتقر إلى أهم شروط المسابقة، ووعد بأنّ يقدم لها إطاراً إن فازت. ” لعلّها تفوز ” همس في نفسه التي تضج بالإثارة والتوقّد، فهذه هي المرة الأولى التي يشارك فيها بمسابقة رفيعة المستوى كهذه، شرع يتخيّل الفرحة المنتظرة إن فاز بإحدى الجوائز الثلاث المخصصة للرسم، وإن كان يطمح للأولى منها، كم سيكون مهماً عندها !! لا بد أنّه سيكون محلّ فخر أسرته، ولا بد أنّ صورته ستغزو المجلات والصحف، ليته قدّم لهم صورة شخصية أجمل من تلك التي قدمها لهم،” ولكنّها تفي بالغرض.” حدث نفسه قائلاً من جديد.ولابدّ أنّ مدير مدرسته سيكرّمه أمام طابور الصباح، ومن يعلم قد يضع له معلم الرسم الدرجة النهائية في الرسم تقديراً لفوزه.”لا بدّ أنّي سأكون نجم المدرسة والحي إن فزت. “ أمّل نفسه قائلاّ، وهو يصفق يداً بيد متحمساً، ويقطع الشارع المقابل للمركز الثقافي، ليستقل أوّل باص يعود به إلى بيته. انتظر يوم إعلان النتائج المعلن عنه في إعلان الترشيح بفارغ الصبر، لكن لجنة المسابقة فاجأته بدعوته للمثول أمامها قبل زمن إعلان النتائج بأيام ، خفّ إليهم، يقدّم رجلاً ويؤخّر أخرى،” أستراهم سيبلغونني برفض ترشيح لوحتي بسبب عدم وجود إطار؟ ” سأل نفسه. ” هذا محتمل. ” ردّت نفسه بقنوط. ” ولكن لماذا لم يستبعدوها دون إبلاغي بذلك؟ فذلك من حقهم !” سأل نفسه من جديد.
” نحن لم نستدعك لنبلغك بقرارنا باستبعاد لوحتك ” قال كبير لجنة تحكيم اللوحات عندما سأله طارق عن سبب دعوته. - “إذن لماذا طلبتم مثولي أمامكم ” سأل طارق بفضول أحيا الأمل في قلبه. -” لكي نخبرك أنّ لوحتك قد فازت بالمركز الأوّل، وأن عليك أن تسارع بإحضار إطار لها قبل موعد إعلان النتائج بشكل رسمي “ - ” هل تعني أنّي الفائز الأوّل في حقل الرسم؟”
- هذا تماماً ما قلته.” - ” إذن أنا الفائز بالمركز الاول في حفل الرسم لهذا العام على مستوى المملكة.” - ” بالطبع يا بني ” قال المحكّم الأشيب ذو الابتسامة الواسعة، وهو يرقب طارق يكاد يطير بجناحين ذهبيين انبتتهما سعادة من لدن عالمها الساحر.
غادر طارق المركز الثقافي، وسعادة الدنيا تحرسه، فكّر في أن يوقف كلّ مارٍ في الشارع، ليخبره بأنّه الفائز بالمركز الأوّل، حدّث نفسه باحتضان سائق الباص، وتقبيل مساعده الغليظ، والزعق بأعلى صوته ” أنا الفائز “. بصعوبة أحتوى فرحته، وسرّها لحين عودته إلى البيت. كان ينوي أن يقسّم كلّ مدخراته المتواضعة بين رسوم رحلته المدرسية إلى الحّمة السورية، وبين نفقاته الشخصية في تلك الرحلة، لكن نظراً للظرف السعيد الطارئ، فقد بات من المؤكّد أنّ عليه أن يقسّم مدخراته بين الرحلة ونفقاته، وبين ثمن ابتياع إطار جميل ومناسب للوحة غوّار، التي ستتبوأ المركز الاول في الحفل الذي سيقام الأسبوع القادم، وبهكذا تدبير سوف يحصل على الحسنيين :الرحلة والجائزة. إنّها المرة الاولى التي ينعم فيها بأمرين سعيدين في أسبوع واحد. وحال انتهائه من الرحلة، سوف يهرول سريعاً بالإطار المطلوب إلى لجنة التحكيم.
هكذا كان مخطط طارق لجدولة نشاطات سعادته، لكن القدر كان قد جدول نشاطاته بطريقة مختلفة فيما يخص طارق، الذي قدّمه لقمة سائغة للموت،فقد غرق طارق في رحلته المتمناة، غرق في الحّمة السورية، كادت السعادة تحمله على جناحين من نّور، لكنّها لم تقوَ على إنقاذه من الغرق، الماء طمح إلى احتواء روحه الموهوبة، لم يبال بفرحته، ولم يرحم انتظاره لحفل توزيع الجائزة،وتجاوز بجبروت عن أحزان لوحته، فيتّمها، واختطف راسمها، وأطعمه للموت، واحتواه بلجته دون أن يشعر بأثمه، ودون أن يؤنّبه ضميره على قسوته، أو على جبروت وجوده. وعاد الأصدقاء إلى بيوتهم بملابس مبلّلة، وبصدور معرّاة، ولم يعد طارق، الذي تنتظره لوحة يتيمة في بهو المعرض الذي أُعدّ لعرض كلّ اللوحات المشاركة في المسابقة، الفائزة وغير الفائزة، لتشاركه فرحة الانتصار. كلّ الوجوه حضرت إلا وجه راسم لوحة غوّار، فقد غاب للأبد، دون أن تعلم اللوحة المنتظرة أنّها قد تيتمت منذ أيام، كادت تسأل أمّ طارق عن سبب غياب طارق، لكنّها خرست وَفْقَ قاعدة الجمادات التي لا يّسمح لها بالكلام في حضرة الإنسان الناطق الواحد، لكنّها بحثت عنه في كلّ الوجوه، تفرّست كلّ الشباب أصحاب البذلات الأنيقة، كانوا يتشحون بالأسود الأنيق ليبرز رجولتهم القادمة في هيئة رسمية تناسب المناسبة السعيدة التي هم في صددها، عطورهم العبقة ملأت الجو،وأثارت رتابته، وأبعدت عن ذهنها صورة طارق المتشح بأبيض الموت، والراكن باستسلام لرمس صغير احتواه منذ أيام. لم يطل انتظار اللوحة لطارق، بل انتهى للأبد عندما أُعلن بحضور وزيرة الثقافة عن موت طارق غرقاً، اختنق الجو بعبرات الحاضرين الذين شيعوا لوحة وصورة طارق بوافر الرثاء والحسرة، ووقفوا جميعاً احتراماً لذكراه، قارئين الفاتحة على روحه الطاهرة، حضنت وزيرة الثقافة أم طارق التي داهمتها موجة بكاء حارة كتمتها بصعوبة مذ حضرت إلى الحفل، تمنىّ جميع الحضور لو أنّ في إمكانهم حضن أم طارق؛ ليطوقوا بأسى أحزانها، وليحملوا منها قبساً من طارق. الشباب الموجودون في الحفل شعروا بخجل خاص من أجسادهم الغضّة التي تتمايل تيهاً بالبذلات الأنيقة أمام نظري أم طارق الموتورة بابنها.
جموع كبيرة من المستعبرين التفت حول لوحة طارق، ترى فيها ما لم تره قبل دقائق، حُزْنُ الحشد هيّج مشاعر اللوحة اليتيمة التي تهشّ بصمت ٍلراسمها الراحل المتشح بالأبيض، وتحنّ بشكل خاص إلى أن يدسّها تحت إبطه، وأن يغادر بها المكان شأنها في ذلك شأن اللوحات الأخرى التي سُلّمت لأصحابها في نهاية الحفل، بعد أن أُعلن عن تسمية هذه الدورة الإبداعية بدورة طارق عسّاف، لكن أمنيتها لم تتحقّق، فقليلةٌ هي أمنيات اليتامى المتحققة. استسلمت اللوحة بانكسار ليديّ أم طارق التي ضمتها بانكسارٍ إلى صدرها، وغادرت مبنى المركز الثقافي لا تلوي على شيء، وتقفل يدها بحزن على جائزة طارق المالية التي حلم أن يشتري بها علبة ألوان من النوع الفاخر
الاثنين، 14 أبريل 2008
ضيف الشرف / الفنان الناقد الدكتور عدنان الظاهر
De :
Adnan Al-Dhahir (aldhahir35@yahoo.de)
Envoyé :
lun. 14/04/08 05:59
À :
mohamed boukerch (boukerchmohamed@hotmail.com)
المتنبي و...doc (37,2 Ko)
صباح الخير أخانا الرائع أبا كرش وليس بوكرش ... [[ أين الكرش وما أراك في صورك إلا مثلي رشيقاً ؟؟ ]].
إليك محاورة من المحاورات الجديدة التي يساهم صديقك المتنبي فيها وقد طالما لاحقته أنت بلا هوادة حتى ستوكهولم ... تحاول أن ترسم له صورة حديثة بالملابس الفرنجاوية ...
إنها حوارية تحمل عنوان :
المتنبي ونيتشة ... وأنت تعرف من هو نيتشة ثم إنك تحسن قراءة ما وراء وما بين السطور وما في الأفئدة والصدور فهيا شارك في هذا الحوار الساخن وإستخلص العِبرَ منه والعِظات .
محبك وأخوك الأكبرعدنان
شعلة السناء
ـ حوار بين المتنبي ونيتشة ْ ـ
(( إنني لم أجدْ حتى اليوم إمرأة ً أريدها أمّا ً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها ، لأنني أحبكِ أيتها الأبدية // الفيلسوف نيتشة ـ هكذا تكلم زرادشت )) .
لقاء غريب ، جد َّ غريب ، جمعت فيه بعد لأي ٍ كلاً من الشاعر أبي الطيب المتنبي والفيلسوف الألماني نيتشة . رجلان معروفان وشهيران فكيف لا أسعى للجمع بينهما مهما كانت المشاق والصعوبات ؟ هل تود أن تلتقي الفيلسوف في مدينتك العراقية الكوفة أم في بلده المانيا ؟ سألت المتنبي فقال بل أفضل أن نجتمع على أرض ملعبه ... في بلده ألمانيا . كما تشاء يا أبا الطيب . تقابل الرجلان فإعتنقا كأنهما معارف وأصدقاء منذ الأزل . تم اللقاء في بيتي وكنت قد أعددت مبكراً كل مستلزمات مثل هذا اللقاء التأريخي الذي لا يجود الزمن به إلا نادراً . كان كلاهما قد جاوز الخمسين بقليل وكان هذا عاملاً عجّل من سرعة التآلف فيما بينهما . لكأنَّ العمرَ جسرَُ حديد يمتد بشكل سري ٍّ تحت سطح الأرض ليربط البشر ببعضهم بقوّة وإحكام . قال المتنبي لي هيا تكلمْ يا رجل ، ما مناسبة هذا اللقاء ؟ معك حق ، معك حق يا شاعر ، المناسبة هي أني أعرض على أخينا نيتشة ْ صفقة زواج من فتاة مثقفة بالغة الحسن إسمها [ شعلة السناء ] فما رأيك ؟ إحتج َّ قائلاً ولماذا تعرضها على هذا الخواجة وليس عليَّ ؟ لأنه مثقف وفيلسوف وشاعر أوربي أما أنت يا صاحبي فلستَ سوى شاعرٍ بدوي أو متبدّ ٍ تجوب البلدان سعياً وراء الرزق والمغامرات . قال محتجاً ومن قال لك إنَّ الحَضَري أفضلُ من البدوي ؟ قلت إسألْ إبن خلدون !! ضحك عالياً فجامله الفيلسوف وضحك بدوره عالياً . ثم ، واصلت كلامي ، لم تقلْ أنت ما قال هذا الصديق بشأن الحب والمرأة . سألني : وماذا قال بهذا الخصوص ؟ قال [[ إنني لم أجدْ حتى اليوم إمرأة ً أريدها أمّا ً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها ... ]] . واصلَ المتنبي هز َّ رأسه مبهوراً بما قال الفيلسوف . ظل يردد مع نفسه : [ إمرأة أريدها أماً لأبنائي ... إمرأة أحبها ... ] . غاب عنا لبرهة ثم تساءل : أفلم يتزوج بعد هذا الفيلسوف ؟ بلى ، لم يتزوج . رفع المتنبي حاجبيه مستفسراً عن السبب . لأنه لم يجد بعد المرأة المثال التي يرومها ، لم يلتقِ بهذا المثال وقد فاته سن الزواج . علّق المتنبي قائلاً : أما نحن الشعراء وسكنة البوادي والبراري والقرى فلا من سن محددة بعينها لزواج الرجل . يستطيع الواحد منا أن يتزوج حتى ولو كان في أرذل العمر . ما رأيك يا فيلسوف ، سألته ؟ قال إنَّ المتنبي على حق ، لم أجد المرأة التي أحبها وتستحقني ولا أقول تستحق عبقريتي ، فالبعض يعتبرالعبقرية جنوناً وهكذا كان حالي في بلدي مع الكثير من الناس . سألته : إذا ً أنت تحب المرأة لكنك لم تجدها ، لم تجد التي تستحق حبك ؟ قال مضبوط . لكن َّ المعروف عنك أنك تكره المرأة وتحقد عليها ، ألهذا الأمر من صلة بعزوفك عن الزواج أساسا ً ؟ قال هذا ليس صحيحاً ، جدْ لي مَن هي جديرة بي وبحبي سأقترن بها على الفور هنا أمامكا . عالْ ... صرختُ ... ما رأيك بهذه الفتاة الساحرة التي تحمل إسم < شعلة السناء > ؟ جميلة ومثقفة وبنت عائلة وتحب مجالسة المثقفين والأدباء والشعراء والمبدعين ؟ قال ولِمَ لم ْ تتزوج هي حتى اليوم إنْ كان أمرها كذلك كما وصفتَ ؟ سؤال جيد يا نيتشة ْ ، جيد جداً . الجواب هي أنَّ هذه التحفة النادرة مثلك لا تتزوج إلا من تقع في حبه ولم يسعفها حظها في العثور على هذا الرجل . فيها منك مشابه كثيرة فتوكلْ ونحن شاهدان . هي لا غيرها مَن سينجب لك خيرَ وأجمل الأبناء . قال قد أوقعتني في حيرة . أتيت إليك ففاجأتني بهذا المشروع العويص الخطير . أحتاج لإتخاذ قرار مناسب إلى ما لا يقل عن فترة عامين من الزمن . تململ المتنبي وقد فقد صبره ... تنحنح ثم قال : قرر الآن يا رجل ، ماذا أفادك عزوفك عن الزواج كل هذه الأعوام وماذا حملت لك عزوبيتك غير مرض السفلس الذي شرع ينخر خلايا دماغك . تجهّم الفيلسوف وقطّب جبينه ثم قال : هذا هو سبب عزوفي عن الزواج !! السفلس ينتقل إلى دم الأطفال من ذويهم والطفل أثمن ما في الوجود . به تتم دورة الحياة وبه تبتدئ ، تماماً كحلقة الزواج !
ما رأيك لو دعوناها لتشاركنا مجلسنا دون التعرض لموضوع الزواج ، فلعلها تكره الخوض فيه مع أناس ما سبق لها وأنْ خالطتهم . كثيراً ما يأتي الزواج كضربة الصدفة العمياء أو الحب من أول نظرة . دعونا نلتقيها هنا لتتعرف علينا بشكل جيد والمقسوم مقسوم ويظل المقسومُ مقسوماً . إنشرح صدر المتنبي لمقترحي وكان به بالغ السرور . أما الفيلسوف فسرح بعيداً عنا يفكر في مسألة فلسفية عويصة . عاد القهقرى إلى مغارته في أعلى الجبل ليختلي بنسره وأفعوانه وليناجي البحر من هناك . كان واضحاً أنه لا يرغب بالزواج ، بل ويتهرب من موضوعه أو الخوض فيه . يريد نظرياً إمرأة ً يحبها لكي تنجب له أبناءً ، إنه يعبد الأطفال لكنه متردد بشأن المرأة التي تنجب له هؤلاء الأبناء . يريد أبناءً بدون إمرأة ، خلافَ أمر ذاك الأمير الشرقي المستبد الذي كان يعاشر مئات الجواري والمحظيات والمسبيات لكنه يشترط عليهن َّ أن لا يحبلن ، والويل لمن تحمل منه كل الويل : جزاؤها الخنق أو الرمي في البحر مقيدة اليدين والقدمين مكممة الفم . هل في الدنيا من إمرأة طبيعية التكوين الجسدي والوظيفي لا تحبل ؟
إفترقنا ولم نتفق على قرار معين . وعدت صاحبي َّ أن أتابع الموضوع خلال الإيمل مع الصديقة < شعلة السناء > منفردين ... فلعلها ترضى بالمتنبي زوجاً وإنْ كان في عمر أبيها ! الزواج من رجل كالمتنبي أفضل من حياة العزوبية ، فهل ستحبه أو هل ستتزوجه بدون حب ؟
تبادلنا الرسائل عَبرَ البريد الألكتروني وأطلعتها على ما دار بيننا نحن الثلاثة من حديث . لم تعلّق ، ظلت صامتة صمتاً حيرني وأضناني . أفلا ترغب بالزواج من المتنبي إذا ما إستنكفت من نيتشة الملحد وهي متدينة على طريقتها الخاصة ؟ قالت بعد صمت طويل : لكنَّ المتنبي رجل متزوج وله ولد إسمه مُحسَّد . نعم ولكنْ ، قلتُ ، ماتت زوجه فترك ولده الوحيد في كنف جدة أبيه في الكوفة ، أي إنه رجل مثلكِ عازب في هذا اليوم . الزواج يا بُنية أفضل من حياة العزوبية . قالت أوافقك في هذا الرأي ولكن ْ ، سوف لن تكون حياتي سعيدة ولا مستقرة مع المتنبي . إنه رجل مغامر جوّاب آفاق لا يقر ُّ له قرار طويل اللسان يسب هذا وذاك فتأتيه العداوات من كل حدب وصوب . إنه وقع في غرامك يا حورية . قالت كيف ولم يرني بعدُ ؟ عرضت عليه بعض صورك فكاد أن يُجن . قال هذه ليست (( شعلة السناء )) إنما شعلة السماء ومليكة النساء . قلتُ له هيا إذا ً إعزمْ وتوكل وزرْ أباها في بيته وأطلب يدها منه فهو في سن تقارب سنّك والرجال تفهم بعضها بعضاً وتقدِّر حاجاتهم . قال أشعر بتردد وبعض التهيب حتى من الفكرة نفسها . أتود يا أبا مُحسَّد التعرف عليها وجهاً لوجه ؟ قال أتمنى لكني أخشى . ممَ تخشى الرجال من أمثالك وهل نسيتَ ما قلتَ من أشعار في الفروسية والقتال والشجاعة ؟ أهمل سؤالي وإنصرف بوجهه عني مردداً (( الرأي قبلَ شجاعةِ الشجعانِ )) ... فأكملت هذا البيت قائلاً (( هو أول ٌّ وهي المحلُ الثاني )) . هزَّ رأسه موافقاً وظل َّ قلقاً متردداً فشجعته على إتخاذ موقف سليم حاسم ناجز وذكرت له بعض شعره الذي قال فيه (( إذا كنتَ ذا رأي ٍّ فكنْ ذا عزيمةٍ // فإنَّ فسادَ الرأي أنْ تترددا )) . قال مُحنقا ً : لا رأي لي في هذا الموضوع الخطير ولا من عزيمة فكفَّ يا هذا ولا تحرث في البحر . داعبته للتخفيف من أزمته الحقيقية فقلت له : إذا ً ... سأعرض أنا عليها الزواج ! ضحك المتنبي من أعماقه لأنه على ثقة من أني أمزح معه لا أكثر . قال وقد توقف عن الضحك : هيا أقدمْ يا رجل ، أقدم وسأكون والسيد نيتشة شاهدا خطبتك لها من أبيها وشاهدا عقدة النكاح ثم الراقص في ليلة عرسك . ما رأيت المتنبي في حياتي جذلا ً هازئاً ساخراً كما أراه هذه اللحظات . قلت له : جميل منك يا صديق أن تحضر ليلة العرس ولكن كيف سترقص وأنت الرجل الوقور المحافظ والإسلام لا يسيغ الرقص والغناء ؟ قال سأرقص رقص الرجال الأشداء على القوم الظالمين ... سأرقص رقصة
[ العَرَضات ] بالسيف المعروفة في بلاد الحجاز ونجد . ضحكتُ ... ضحكتُ وأعجبني مرح الرجل ودعابته وسرعة َ خاطره فرأيت أن أسأله عن رقصة [ الدحّة ] البدوية أو [ الجوبية ] العراقية لكني أعرضتُ ولم أسالْ .
زرتُ بلاد [ شعلة السناء ] وطلبت مقابلتها في مقهى أو مطعم فإعتذرتْ . قالت إنها ليست من مرتادي المقاهي والمطاعم . بدل ذلك ، قالت ، تعالَ زرني في بيتنا وتعرّف ْ على أهلي فسيرحبون بك ضيفاً شرطَ أن لا تطرح نفسك عليهم خاطباً لإبنتهم . ماذا سأقول لهم إذا ً ؟ ما سبب هذه الزيارة التي تشبه الخيال ؟ قلْ لهم جئتُ أعرض على كريمتكم أمراً قد تقبلونه وقد ترفضون . قلْ لهم جئتُ أعرض عليها أن تختارَ لها زوجاً واحداً من إثنين : إما الشاعر العراقي المتنبي أو الشاعر والفيلسوف الألماني نيتشة ْ . قلت لها لكنَّ المتنبي مصاب بمرض جنون العَظمة وهو مَن قال ( أنا الذي بيّنَ الالهُ به الأقدارَ ... ) والفيلسوف مصاب بداء السفلس فأيهما تفضلين ؟ قالت أعوذ بالله من آفة السفلس ولم تزدْ . إستنتجتُ أنها لا تمانع من الزواج بالمتنبي طالما أنَّ علته نفسانية ، أما الآخر فالعلة في جسده ولا يصح ُّ ولا يتم الزواج إلا بالجسد .
أثناء اللقاء معها في دار أبيها سألتها هل ترغب في أن تلتقي مع خطيبها الشاعر الكوفي المفترض ؟ قالت أين ؟ قلت في بلدي ... قالت كلا ، تعالَ معه لنلتقي في بلدي تحت سمع وبصر أبي وأمي . قلت لها ألديك مانع أن أتكلم معه خلال تلفونك النقال هذا ؟ ناولتني التلفون فتكلمتُ مع المتنبي وهي تصغي . مرحباً صاحبي ... حصلت الموافقة الأولية على ترشيحك خاطباً لشعلة السناء على أن تأتي إلى بلدها وتطلب يدها من أبيها كما تقتضي العادات والأصول والتقاليد . سأكون معك وفي صفك مدافعاً ومزكياً ونافياً عنك الكثير مما أُلصقَ بك من تهم وإفتراءات . صمتَ المتنبي على الطرف الآخر وكنت أسمع صوت تنفسه لاهثاً . بعد فترة قال مُجهداً : إنسَ الموضوع . لا حاجةَ لي بالزواج . زواج ٌ واحدٌ يكفي بشره وخيره . ثم ، فاتني سن الزواج . لم يزدْ . لم ينتظر ردي . قال تصبح على خير وأغلق التلفون .
الشاعر سليمان جوادي، الموسيقار الحاج محمد الطاهر فرقاني والفنان محمد بوكرش
انه الشموخ
إنه الشموخ يا صديقي حين تلتقي الكلمة الصادقة المعبرة بالنغمة العذبة الشجية و الريشة الخلاقة المبدعة دمت يا أيها الأوفى
سليمان جوادي 12/04/2008
الأحد، 30 مارس 2008
من الفنان محصر وآخرين الى أخيهم وأستاذهم…بوكرش
الفنان محصر محمد في متحف بيت بوكرش
أجمل شكر وعرفان تجلى في هدية الفنان الواعد الشاب محصر محمد لشخص بوكرش محمد المتواضع في بيته ليدخل هذا العمل في الذاكرة الجماعية والسلوك الانساني بين أعمال أخرى فنية تشكيلية أدبية وموسيقية لكل من عرف بوكرش عن قرب وعرفه وكان تبادل الأعمال جعل من بيت الأخير متحفا لايقل قيمة عن متاحف الجزائر الرسمية، شكرا لأخي وتلميذي محصر محمد ولكل من ساهم بعمله لتحقيق أمنية بوكرش التي جعلت من بيته محراب فنون ومركز اشعاع فني
الخميس، 27 مارس 2008
الخميس، 13 مارس 2008
مدونة خاصة بجديد وقديم كل ما هو جميل وانساني في ميدان الفنون التشكيلية